اسلاميات

ففروا إلى الله...

هي الدنيا وذا حالها، مليئة بالأحزان والأكدار، والضيق والضنك، فلا سعيد فيها إلا من فرَّ منها إلى خالقها، فيفر المؤمن من شهواتها وزخارفها وتضليلها إلى الله سبحانه

  • 282
  • 2:42 دقيقة
الشيخ عبد المالك وضح*
الشيخ عبد المالك وضح*

يقول الحق سبحانه: {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}، يقول سيد قطب رحمة الله عليه: “التعبير بلفظ الفرار عجيب حقا، وهو يوحي بالأثقال والقيود والأغلال والأوهاق (الحبال) التي تشد النفس البشرية إلى هذه الأرض، وتثقلها عن الانطلاق، وتحاصرها وتأسرها وتدعها في عقال، وبخاصة أوهاق الرزق والحرص والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود، ومن ثم يجيء الهتاف قويا للانطلاق والتملص، والفرار إلى الله من هذه الأثقال والقيود، الفرار إلى الله وحده منزها عن كل شريك، وتذكير الناس بانقطاع الحجة وسقوط العذر: {إني لكم منه نذير مبين}، وتكرار هذا التنبيه في آيتين متجاورتين، زيادة في التنبيه والتحذير، وكأنما كانت هذه الإشارة إلى آية السماء وآية الأرض وآية الخليقة استطرادا مع آيات الرسالات والرسل”.

هي الدنيا وذا حالها، مليئة بالأحزان والأكدار، والضيق والضنك، فلا سعيد فيها إلا من فرَّ منها إلى خالقها، فيفر المؤمن من شهواتها وزخارفها وتضليلها إلى الله سبحانه، وأما الشقي فيفر من الله، ومن مظانِّ رحمته وعفوه إلى حبائل الدنيا وشياطينها، فشتان شتان ما بين الفرارين.

إن من مراتب الهداية ودرجاتها الفرار، وهو على نوعين: فرار السعداء، وفرار الأشقياء، أما فرار السعداء فهو فرار الذين يفرون من كل شيء إلى خالق كل شيء، وهذا فرار أهل السعادة، فيفرون من الدنيا ومن بلاياها إلى الله سبحانه. وأما فرار الأشقياء فهم الذين يفرون من الله ومن الهداية ومن أهل الخير، ويرون أن السعادة فيما يتخيله الواحد منهم لا فيما حدده الشارع. وكل واحد من هؤلاء يتوهم أن الشرع يضع عليه قيودا، فيقول لك: يا أخي، كل مرة نذهب للصلاة، ودائما نصوم ونفعل ونفعل...، وفي كل حين أوامر ونواه، وحديث عن الجنة والنار، ثم يقول لك: إن في الانحراف توسيعا على الناس، وفيه انطلاق وحرية، فأنا بالخيار آكل ما أريد، وأصلي أو لا أصلي، وأفعل وأفعل، فهذا حال من سخط الله عز وجل عليه، فالمعصية عنده لها حلاوة، والطاعة عنده لها مرارة.

ربنا سبحانه هو الوحيد الذي نفر إليه، فهو القائل: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا}، فالله محيط بالسموات والأرض، فإذا أردت أن تفر منه، فإلى من تذهب وهو محيط بالعالمين؟ تفر منه إليه، ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعلن هذا الفرار إلى الله كل ليلة، من خلال الأذكار التي علمنا إياها من أذكار النوم، كما في الصحيح عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم نم على شقك الأيمن، وقل: اللهم ألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك” هذا هو الفرار، “لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت”. فعندما تتمثل هذا الذكر في كل ليلة، فكأنك تستحضر هذا الفرار إلى ربك. وفي الصحيح أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية، وأمَّر عليهم رجلا، وفي بعض الروايات أن هذا الرجل كان فيه دُعابة، فضايقوه فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله بطاعتي؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي حطبا فجمعوه، قال: أججوه نارا، ففعلوا، قال: ادخلوا فيها، فلا زال بعضهم يدفع بعضا، فقال قائلهم: إنما فررنا إلى الله ورسوله من النار، فلا زال يدفع بعضهم بعضا حتى انطفأت النار وسكن غضب هذا الأمير، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والله لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف”.. والله ولي التوفيق.

* إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي