تتوقف قوة المسلمين وعزتهم على وحدة كلمتهم وقوة جبهتهم الداخلية؛ ومن أجل ذلك جاءت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بالأمر بها، والحض عليها، فوحدة المسلمين مقصد شرعي حرصت عليه الشريعة الغرّاء حرصا شديدا.
تزداد الحاجة للتماسك والتعاضد في وقت الأزمات والفتن والحروب، لذا جعله رب الأرض والسموات سببا لحبه فقال: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص}، خاصة بعد تغير شكل الحروب من المباشرة إلى حروب الوكالة، حيث أصبح التهديد لأي دولة يأتي من الداخل، وهو ما يسمى اليوم ”حروب الجيل الخامس” التي تستهدف الرموز الوطنية في هذه الدولة، من خلال إذكاء الفتنة الداخلية. فالجبهة الداخلية للدولة من المعاني المهمة، وکل أفراد الدولة، من سياسيين ومدنيين؛ مثقفين وعلماء واقتصاديين وغيرهم معنيين لبذل ما يؤدي إلى تحقيقها.
وإن جميع التشريعات والأحكام وقواعد السياسة الشرعية تصب في ميدان تحصين الجبهة الداخلية والعسكرية معا، بل وتؤکد أن هناك أسبابا جوهرية لزعزعة وضعف الجبهة الداخلية للدول، لكن يمكن علاجها بأدوات وإجراءات تتخذها الدولة لتحقيق الأمن الداخلي. إن مقصد وحدة الأمة وتماسك جبهتها الداخلية يعدّ ركيزة أساسية لضمان تحقيق بقية مقاصد الشريعة، وحفظ تماسك المجتمعات الإسلامية.
ومن الأسس الشرعية لمقصد وحدة الأمة أن القرآن الكريم والسنة النبوية والسيرة العملية إلى جانب الاستقراء الفقهي والتاريخي، شدّدت كلها إلى اعتماد وحدة الأمة كمقصد سادس (إضافة إلى المقاصد الخمسة المعروفة، وهي: حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال) وأساسي بالضرورة، وأن الفرقة والتنازع بين المسلمين ليسا فقط من مظاهر الانحراف الديني، بل يشكلان تهديدا جوهريا لأصل الدين نفسه والمجتمعات الوطنية والدول والانتظام، يقول الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، وقوله: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}، وقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}، وأكدت ذلك السنة النبوية قولا وعملا، حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ”المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم”، وقوله: ”المؤمنون كالجسد الواحد”. وحقق النبي صلّى الله عليه وسلم هذه الوحدة فعلا بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقرّر ذلك في أول وثيقة لإقامة الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة التي فيها وصف المسلمين بأنهم (أمة واحدة من دون الناس).
ولا غرابة أن تحظى الوحدة بهذه المكانة في القرآن والسنة لأنها من أهم عوامل قيام المجتمعات والدول والحضارات، كما أن الفرقة هي أهم عوامل سقوطها. ومن هذه الزاوية، أكد القرآن بأن أي فهم للدين يؤدي إلى الوحدة فقد أقامه، وأي فهم للدين يؤدي إلى الفرقة فقد هدمه ولم يقيّمه. وتبدو مقاصد قوة الأمة الإسلامية وتماسكها وتعاون أفرادها واضحة وجلية في العبادات والتشريعات، ففي شعيرة الصلاة حين تؤدى جماعة في المساجد وبالأخص في الجمع والجماعات والأعياد، وهي واضحة وجلية أيضا في مناسك الحج حين يلهج الحجاج بالتوحيد، وحين يدفعون إلى منى، ثم إلى عرفات، وهكذا في كل تنقلاتهم بين المشاعر المقدسة، لا تمييز بين أبيض وأسود، ولا بين عربي وأعجمي. ولعل من أبرز محاسن هذه الشرائع الإسلامية مراعاة الجماعية، فجُلّ التشريعات والأقضية في الإسلام ليس إلى الأفراد، وإنما خاطب بها الشارع الحكيم الجماعة المسلمة. الاجتماع يخيف الأعداء ويلقي الرعب في قلوبهم ويجعلهم يخشون شوكة الإسلام والمسلمين، ومن ثم يكون في الاجتماع عزة للمسلمين في كل مكان.
ومن الأمثلة العملية في السيرة النبوية على موضوعنا اهتمام النبي صلّى الله عليه وسلم بالجبهة الداخلية قبل قدوم جيش الأحزاب، فلما علم النبي صلّى الله عليه وسلم بقدوم جيش الأحزاب وأراد الخروج إلى الخندق، أمر بوضع ذراري المسلمين ونسائهم وصبيانهم في حصن بني حارثة؛ حتى يكونوا في مأمنٍ من خطر الأعداء، وقد فعل ذلك صلّى الله عليه وسلم؛ لأن حماية الذراري والنساء والصبيان لها أثر فعّال على معنويات المقاتلين؛ لأن الجندي إذا اطمأن على زوجه وأبنائه يكون مرتاح الضمير، هادئ الأعصاب، فلا يشغل تفكيره أمر من أمور الحياة، يسخر كل إمكاناته وقدراته العقلية والجسدية للإبداع في القتال، أما إذا كان الأمر بعكس ذلك؛ فإن أمر الجندي يضطرب، ومعنوياته تضعف ويستولي عليه القلق، مما يكون له أثر في تراجعه عن القتال وبذلك تنزل الكارثة بالجميع.
ومن الأمور التي أسهمت في تقوية وتماسك الجبهة الداخلية مشاركة النبي صلّى الله عليه وسلم جنده أعباء العمل، فقد شارك الرسول صلّى الله عليه وسلم الصحابة في العمل المضني، فأخذ يعمل بيده الشريفة في حفر الخندق، فعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع الصحابة بهمّة عالية لا تعرف الكلل، فأعطى القدوة الحسنة لأصحابه حتى بذلوا ما في وسعهم لإنجاز حفر ذلك الخندق. وكان صلّى الله عليه وسلم يشارك الصحابة رضي الله عنهم في آلامهم وآمالهم، بل كان يستأثر بالمصاعب الجمّة دونهم، ففي غزوة الأحزاب، نجد أنه صلّى الله عليه وسلم كان يعاني ألم الجوع كغيره، بل أشدّ، حيث وصل به الأمر إلى أن يربط حجرا على بطنه الشريف من شدّة الجوع.
استطاع صلّى الله عليه وسلم لما يتمتع به من حنكة وبراعة سياسية مستمدة من شخصيته النبوية، أن يمسك بزمام الأمور وينقذ المؤمنين من الموقف الحرج الذي حدث لهم عندما وصلت الأحزاب إلى المدينة، وأصبح الخطر يهدّد المدينة وما حولها، فقد توحدت قيادة المسلمين تحت زعامته صلّى الله عليه وسلم، فكان ذلك من أسباب كسب المعركة، والفوز بها.
الخبر
16/11/2025 - 22:50
الخبر
16/11/2025 - 22:50
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال