ما يجري في قطاع غزة منذ أكثر من عشرين شهرا لم يعد مجرد عدوان إسرائيلي همجي، بل تحول إلى فضيحة إنسانية أخلاقية عالمية بكل المقاييس؛ إنها حرب إبادة ممنهجة، وحصار شامل، وتجويع متعمّد، وخنق إنساني لشعب أعزل، ترتكب بحقه أبشع الجرائم تحت سمع وبصر العالم، بل وأحيانا بدعمه، أو بصمته، أو تواطئه المباشر.
والمفارقة المؤلمة أن هذا العالم الذي يتشدق ليل نهار بحقوق الإنسان وكرامة الإنسان، يقف عاجزا أمام موت الأطفال جوعا، ودفن الجرحى تحت الركام، واختفاء العائلات بأكملها بفعل آلة القتل الإسرائيلية. لكن ما هو أخطر من الصمت الدولي هو الخذلان العربي والإسلامي المخجل الذي تجاوز كونه موقفا باهتا، ليصبح مشاركة سلبية، فمعظم الدول العربية، وخاصة الكبرى منها، لم تقم حتى بالحد الأدنى من مسؤولياتها الإنسانية أو السياسية، بل غلبت مصالحها وتحالفاتها على اعتبارات التاريخ والجغرافيا والأخلاق، وحتى على صلة الدم وأخوة التراب.
إن خذلان المسلم لأخيه المسلم حرام شرعا، وقد عدَّه ابن حجر الهيثمي من الكبائِرِ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته”. فما بال غزة تُنتهك حرمتها، ويُنتقص من عرضها، وتعاني ويلات الإبادة الجماعية بأبشع صورها، ولا تجد من المسلمين والعرب من ينصرها، ويذود عن حرمتها ويستر عرضها؟
إن من أمكنه نصر المظلوم ولم يفعل فقد فعل محرما لمخالفته للأمر الشرعي، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على نصرة المسلم لأخيه المسلم، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”انصر أخاك ظالما أو مظلوما”، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: ”تأخذ فوق يديه”. وفي الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: ”المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا” وشبَّك بين أصابعه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم”.
لقد فقدت الدول العربية والإسلامية وزنها وقيمتها وتأثيرها على الصعيد الدولي؛ بحيث لا تستطيع أن تجبر الكيان الصهيوني والمجتمع الدولي على إدخال الغذاء والدواء إلى قطاع غزة بطريقة منظمة، تحفظ للمنكوبين والمكلومين في قطاع غزة كرامتهم التي عجز الكيان الصهيوني عن كسرها رغم الدمار والقتل والتجويع.
على أي أساس يُعرّف الزعماء العرب أنفسهم من ناحية الدين والهوية والانتماء القومي؟! وكيف يرون المسؤوليات المترتبة على ذلك، خصوصا إذا كان شعب فلسطين شريكا لهم في الدين والهوية والقومية والتراث والتاريخ المشترك؟! لماذا يرفض هؤلاء الزعماء العرب التعبير عن إرادة شعوبهم وعن حقيقة مواقفها تجاه قضية فلسطين؟! هل تدرك الأنظمة أن المقاومة في فلسطين هي خط الدفاع الأول عن البلدان العربية، وأنها حائط الصد ضد العدو الصهيوني لحماية الأمة العربية والإسلامية؟!
لقد تقرر عند العلماء والفقهاء على تنوع مذاهبهم الفقهية والفكرية، أن أي أرض إسلامية احتلها مغتصب فقد وجب على أهلها استردادها حتى تخرج المرأة دون إذن زوجها، ويخرج الولد دون إذن والديه، ويخرج العبد دون إذن سيده، ذلك أن الدفاع عن الأرض والوطن في هذه الحالة فرض عين على جميع أهل الوطن المحتل، فإن استطاعوا ردها فبها ونعمت، وإلا فقد وجب على الدول المجاورة معاونتها، وهكذا تتسع الدائرة لكل المسلمين حتى تخليصها من يد المغتصب، تماما كما كان المسلمون منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم.
إن الأعداء يكيدون للأمة، ويريدونها عاجزة بائسة مستسلمة، وأن يكون رأس مالها التأسف والتوجع، وأن تنسى الآلام بالتعاطي للمخدرات والأفلام، وتهرب من المُوجعات إلى مباريات كرة القدم، فإنها لن تموت بإذن الله، لأن الأمة التي اختارها الله لوراثة الأمم، وبقاء شريعة الإسلام، وحفظ الدين، والانتساب للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليست هكذا، وما ينبغي لها أن تكون.
وجب على المسلمين اليوم أكثر من أي وقت آخر أن يقوموا لإنقاذ إخوانهم في غزة ونصرتهم والدفاع عن المسجد الأقصى، وأن يوقفوا التطبيع بكل أشكاله مع هذا العدو الغاشم، وهذا أقل الواجب لنصرة الأقصى، وبيت المقدس ومعاونة ومساندة أهل فلسطين حتى استرداد حقهم المسلوب، وتحرير المسجد الأقصى.
وكما جاء الترغيب في الوقوف مع المؤمن جاء النهي والترهيب من خِذلانه، والتنصل عن نصرته وموالاته، فلقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: ”المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله”، وهو سبب للفتنة والفساد الكبير :قال الله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأَرض وفساد كبير} ومعنى الآية: أن الكفار ينصر بعضهم بعضا، ونحن إذا لم تحل هذه النصرة بيننا ساد الفساد، قال الطبري: ”إلا تناصروا أيها المؤمنون في الدين، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”.
الخبر
05/10/2025 - 23:04
الخبر
05/10/2025 - 23:04
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال