العالم

"فرنسا تحولت إلى رجل أوروبا المريض "

ماكرون بين خياري إجراء انتخابات تشريعية مسبقة أو الاستقالة.

  • 5190
  • 6:17 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

حاوره: رضا شنوف

يقدم الدكتور عبد النور تومي، إعلامي ومستشار بمركز دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا، في هذا الحوار مع "الخبر"، قراءة للأزمة السياسية التي تتخبط فيها فرنسا حاليا.

لماذا ذهب رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو للتصويت على الثقة؟ وهل من فرص نجاته؟ ومن المستفيد من سقوط حكومة بايرو؟

تعيش فرنسا منذ عام بالضبط أزمة سياسية غير مسبوقة في عهد الجمهورية الخامسة التي تأسست عام 1958، منذ قرار حل الجمعية الوطنية في شهر يونيو عام 2024 وبعد نتائج الانتخابات التشريعية المسبقة، تغير النظام الرئاسي إلى نظام برلماني، رغم عدم اعتراف كثير من خبراء القانون الدستوري في فرنسا لسبب بسيط عدم إرباك الساسة وحتى الرأي العام والعودة بهم إلى أيام الجمهورية الرابعة. فرنسا اليوم بين مطرقة النظام الرئاسي ورئيس كما يصف في النظام الرئاسي الأمريكي بطة عرجاء وسندان النظام البرلماني تحت ضربات برلمان عالق.

على ضوء هذه التطورات كانت حكومة فرنسوا بايرو منذ تشكيلها في شهر ديسمبر الماضي وأتت بعد سقوط حكومة ميشال بارنييه، كان بايرو آخر ورقة في يد الرئيس ماكرون لكسب الشرعية الدستورية لإدارته بعد قراره بحل الجمعية الوطنية التي منحت تحالف اليسار مقدمة نتائج الاستحقاق التشريعي الذي رفض الرئيس ماكرون تعيين رئيس وزراء ينتمي لتحالف اليسار.

منذ تلك الوهلة وفرنسا في أزمة سياسية طغى عليها صراع الأحزاب وغطرسة الرئيس، ما جعل فرنسا تدخل في انسداد مؤسساتي غير مسبوق في عهد الجمهورية الخامسة بسبب التصويت على الميزانية العامة للدولة والضمان الإجتماعي دون اللجوء للمادة 49-3 من الدستور – ملاحظة منذ عام 2022 كل قوانين الميزانية العامة والضمان الاجتماعي لم يصوّت عليهم من قبل النواب دخل الغرفة السفلى، كلهم اضطر رؤساء حكومات الرئيس ماكرون الأربع تفعيل المادة 3.49 من الدستور.

رئيس الحكومة بايرو الذي "يعرف" عنه أنه رجل توافق ومفاوض محنك كونه له باع طويل في السياسة الفرنسية، إلا أنه فشل فشلا ذريعا.. وهو كان يعي جيدا أن أيامه على رأس الحكومة باتت معدودة، لهذا السبب أراد أن يضع الناخب الفرنسي أمام المشهد ويرمي بالكرة في ملعب المعارضة – لكن المعارضة فاجأته بردها السريع والعودة بالكرة إلى الملعب كضربة التنس. خصوصا من حزب اليمين المتطرف حزب آل لوبان (التجمع الوطني). هو اليوم يطالب بانتخابات تشريعية مسبقة.

وبالتالي يستطيع أن نقول إن رئيس الوزراء بايرو كتب قصة نهايته بيده وأخرجها بصوته أمام الناخب والإعلام الفرنسيين، هذا بعد إعلان ثلاثة أحزاب معارضة رئيسية رفضها التصويت على منح الثقة لرئيس الوزراء فرانسوا بايرو، تاركا فرنسا في مرحلة جديدة مليئة بالمخاطر على خلفية سياسية تقشفية والدفع مجددا بالمؤسسات الفرنسية نحو المجهول وتموضع حزب اليمين المتطرف صانع الملوك هذا منذ عام 2022. 

ما الذي يعنيه سقوط حكومة بايرو رئيس الحكومة الخامس منذ 2022 ؟ وإلى أي حد سيؤثر ذلك على الرئيس ماكرون وما تبقى له من عهدته؟

بدأت التحركات السياسية لأحزاب المعارضة وحتى أصوات داخل التحالف الرئاسي الحالي بالحديث صراحة عن حل الجمعية الوطنية مجددا واستدعاء الهيئة الانتخابية لانتخابات تشريعية مسبقة، كان آخر تصريح للرئيس السابق نيكولا ساركوزي في مقابلة مع صحيفة اليمين لوفيغارو، حيث صرّح أنه لإنهاء الانسداد السياسي وتداعياته المباشرة على الأسواق المالية في ظل عالم متوتر وحرب الرسوم التي فرضها الرئيس الأمريكي على دول الاتحاد الأوروبي، على الرئيس ماكرون أن يحل الجمعية الوطنية وتنظيم انتخابات مسبقة..

وأقر فرانسوا بايرو بأن تصويتا على الثقة يمثل مغامرة سياسية، لكنه أكد أن فرنسا تواجه خطراً أكبر جراء تفاقم الدين العام، وقال في مؤتمر صحفي "نعم، إنه أمر محفوف بالمخاطر، لكن عدم القيام بأي شيء أكثر خطورة".

وفي حال سقوط حكومة فرانسوا بايرو، وهو ما بات أمرا واردا، على الرئيس ماكرون خيارات دستورية أمام "عاصفة الخريف" التي تعرفها فرنسا؛ من بينها تكليف رئيس وزراء جديد، أو الإبقاء على بايرو على رأس حكومة تصريف أعمال، أو الدعوة لانتخابات تشريعية مسبقة. وكان الرئيس ماكرون قد خسر آخر رئيس وزراء له، ميشيل بارنييه، في تصويت على حجب الثقة في ديسمبر 2024، بعد ثلاثة أشهر من تعيينه، في اعتقادي الرئيس ماكرون يذهب إلى تعيين رئيس وزراء وأحد المقربين منه، وزير الجيوش الحالي، سيباستيان لكورني رغم محاولة تموقع الاشتراكيين ومطالبة الرئيس ماكرون بتعيين رئيس حكومة من الحزب الاشتراكي.

لكن السؤال في كلتا الحالتين. كل من لكورني أو فور رئيس الحزب الاشتراكي، من أين يأتون بالعدد المطلوب لحكومة قد يكون لها أغلبية داخل الجمعية الوطنية؟ هذا من جهة وما هي هوامش التوافق والتفاوض لديهما؟

لم يبق للرئيس ماكرون أي رصيد، كونه منذ عاصفة صيف 2022 تحركاته جد محدودة على الصعيد الداخلي، تبقى له السياسة الخارجية وسياسة الدفاع هي من صلاحياته الدستورية - ما جعله يركز على السياسة الخارجية مؤخرا ويحاول أن يلعب دورا محوريا في الملف الأوكراني والتموضع كزعيم أوروبي وازن في السياسة الدولية. كما لوحظ أيضا أن باريس سوف تعترف بالدولة الفلسطينية هذا تحول نوعي في سياسة الرئيس ماكرون تجاه القضية الفلسطينية.

هل الذي سيخلف بايرو يملك الأوراق لتغيير الوضع في فرنسا التي تعاني من تحديات غير مسبوقة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا؟

مع سقوط حكومة بايرو، يكون الرئيس ماكرون قد عيّن أربعة رؤساء حكومات خلال العشرين شهراً. ومنذ إعلان بايرو عن التصويت بالثقة بدأت الاتصالات لتسمية رئيس حكومة بديل عن بايرو. والمشكلة الأساسية التي يعاني منها ماكرون أن الانتخابات التشريعية المسبقة التي دعا إليها بعد أن حل الجمعية الوطنية بقرار فردي، جاءت بجمعية وطنية لا تتمتع بأغلبية من شأنها توفير الدعم للحكومة وتسهيل عملها التنفيذي ومشاريع القوانين التي تحتاج الأغلبية حتى تمر لقوانين.

منذ ولايته الثانية، كلف ماكرون 3 رؤساء حكوماته تنتمي كلها إلى تياره السياسي الوسطي، إليزابيث بورن وغابرييل أتال وفرنسوا بايرو، فيما الرابع ميشال بارنييه، ينتمي إلى اليمين التقليدي المسمى "الجمهوريون". أن الأربعة ضموا خليطاً من المجموعتين اللتين يطلق عليهما اسم "الكتلة المركزية" أو الائتلاف الرئاسي، والتركيز نحو اليسار ممثلاً بالحزب الاشتراكي. وحسب المحللين بأن هناك تواصلاً بين الرئيس ماكرون وأوليفيه فور، أمين عام الحزب الاشتراكي الذي طرح نفسه مستعدا لخلافة فرانسوا بايرو الأمر الذي يثير جدلاً واسعاً داخل الكتلة الوسطية وخصوصاً داخل "الجمهوريون"، وأيضاً داخل "الجبهة الشعبية الجديدة" التي تضم أحزاب اليسار (الاشتراكي والشيوعي وفرنسا الأبية والبيئية). هذا كلّه تناقض عقيدة حوكمة الرئيس ماكرون للعهدة الأول.

في حين زعيم حزب فرنسا الأبية جان لوك ميلونشون يعارض مبدئيا استعداد الاشتراكيين لتشكيل حكومة مع الرئيس ماكرون. ويقترب البيئيون من طروحات "فرنسا الأبية". فإن الرئيس ماكرون لن يكلف أوليفيه فور الأمين العام للحزب الاشتراكي الذي فجرّه الرئيس ماكرون عام 2017 بتشكيل الحكومة، طالما سيفشل السيد فور في إقناع الرئيس ماكرون بأن حكومته لن تسقط لدى أول تصوت لها أمام الجمعية العمومية، ما يحول الأزمة الحكومية إلى أزمة مأسسية ويضع الرئيس الفرنسي في جدلية إما حل الجمعية الوطنية أو الاستقالة. عندها تدخل فرنسا فعليا في حالة اللاستقرار السياسي.

أي سيناريو ينتظر فرنسا في ظل حالة اللااستقرار التي تعيشها وكيف يؤثر ذلك على مكانتها أوروبيا ودوليا؟

فقدت فرنسا الكثير من نفوذها وموقعها الدبلوماسي منذ دخولها في حالة اللااستقرار والاتجاه نحو المجهول، أصبحت توصف برجل المريض لأوروبا، التي هي الأخرى مرت بأزمات مالية على غرار إسبانيا وإيطاليا، لكن استطاعت أن تجد حلولا وسطا بين السلطة والمعارضة داخل البرلمان وتضمن استقرارا سياسيا وانتعاشا اقتصاديا في البلد، هذا على عكس فرنسا التي لم تستطع أن تجد حلولا لأزمتها المالية التي تحوّلت إلى أزمة سياسية؛ وهذا يعود لسببين: السبب الأول، النظام الدستوري الذي يختلف عن كل من إسبانيا وإيطاليا لديهما نظامان برلمانيان، ثانيا غياب ثقافة سياسة التوافقات، هذا أمر جوهري في الثقافة السياسية في هذه البلدان الذي هو أمر من اختصاص الأنثروبولوجيا السياسية. ما أثر بعمق على مكانة باريس أوروبيا ودوليا بل حتى متوسطيا وشرق أوسطيا. هذا العنصر الذي أصبح محددا سياسيا بل حتى سياديا لدى الرئيس ماكرون.

كي لا يستقيل ولا يترك مكانه قبل عام 2027؛ خصوصا لحزب اليمين المتطرف (التجمع الوطني) الذي أصبح على بعد أمتار فقط للوصول لسدة الحكم في فرنسا. كون هذا الحزب له سياسة خارجية مختلفة لسياسة الرئيس ماكرون بسبب قربه إلى حد قريب مع موسكو وواشنطن خاصة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب.

فرنسا تسير نحو المجهول والماكرونية انتهت مع الرئيس ماكرون عام 2022، هذا الرئيس الشاب الذي جاء ليقوم بثورة ويصلح فرنسا من الجذور، ها هو اليوم يتخبط بين سلوك حوكمة، وفي نفس الوقت التعرّج وبالتالي أصبح لا بديل ولا إصلاح في فرنسا حتى بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2027.