العالم

فرنسا من "الرجل المريض" إلى "الجمهورية المتعثرة"

لا تمثل استقالة رئيس الوزراء المُعين، سيباستيان لوكورنو، بعد أقل من 24 ساعة من تشكيل حكومته، مجرد حادثة عرضية في سجلات التاريخ السياسي، بل هي تجسيد دراماتيكي لمرحلة "الانحلال السياسي".

  • 1492
  • 3:21 دقيقة
صورة: ح.م
صورة: ح.م

لم تعد الأزمة الفرنسية، مجرد حالة عابرة من عدم الاستقرار الحكومي، بل تحولت إلى ظاهرة هيكلية تعكس اختلالاً عميقاً في النسق السياسي بأكمله، ولا تمثل استقالة رئيس الوزراء المُعين، سيباستيان لوكورنو، بعد أقل من 24 ساعة من تشكيل حكومته، مجرد حادثة عرضية في سجلات التاريخ السياسي، بل هي تجسيد دراماتيكي لمرحلة "الانحلال السياسي" التي تنبأ بها عالم السياسة صامويل هنتنغتون، حيث تعجز المؤسسات القائمة عن استيعاب المطالب الاجتماعية والسياسية المتزايدة.

انكفاء نموذج "الجمهورية الخامسة" الرئاسية

تقوم "الجمهورية الخامسة" الفرنسية على مبدأ تفوّق السلطة التنفيذية، المتمثلة في الرئيس، على السلطة التشريعية. فيما أدت الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها الرئيس إيمانويل ماكرون في 2023 إلى نتائج سلبية على هذا النموذج، بداية بالبرلمان المشظَّى، حيث لم يحصل أي ائتلاف على أغلبية مطلقة، مما أدى إلى حالة من "التعايش" القسري وغير المستقر بين كتل نيابية متصارعة: كتلة الوسط الماكرونية، والكتلة اليسارية (الجبهة الشعبية)، والكتلة اليمينية (التجمع الوطني). وهذه الحالة تقيّد يد الرئيس والحكومة بشكل غير مسبوق، وثانيا أزمة الشرعية والتمثيل، حيث تظهر نظرية "الأزمة متعددة الأبعاد"، أن النظام فقد قدرته على تجسيد الإرادة الشعبية بشكل واضح. الشعب صوّت ضد ماكرون، ولكن دون أن يصوّت لصالح بديل واضح، مما خلق فراغاً في التمثيل، إضافة إلى انهيار ثقافة التسوية، مع فشل الأحزاب السياسية في الوصول إلى "تسوية تاريخية" حول قضايا جوهرية كالميزانية والضرائب، كما تُظهر تصريحات لوكورنو "الأحزاب لم تقدم تنازلات"، يعكس تصلباً إيديولوجياً يقوّض أسس العمل البرلماني.

وتكرّس استقالة لوكورنو، وهي الثالثة في أقل من عام، "حكومة الأقلية" العاجزة، وتُظهر أن منصب رئيس الوزراء أصبح "منصباً مستحيلاً" في ظل المعادلة البرلمانية الحالية.

ولا تقتصر تبعات هذه الأزمة على الداخل الفرنسي، بل تمتد إلى دور فرنسا الاستراتيجي في أوروبا والعالم، على غرار تصدّع عمود أوروبا. فمع تحول فرنسا إلى "الرجل الأوروبي المريض"، ينهار أحد الركيزتين الأساسيتين للاتحاد الأوروبي (إلى جانب ألمانيا). هذا يهدد استقرار الكتلة بأكملها، خاصة في ظل المنافسات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، إلى جانب أزمة المالية العامة، كتهديد وجودي وسط تحذيرات وكالات التصنيف (مثل فيتش) وتصاعد الدين العام (114% من الناتج المحلي الإجمالي) والعجز المعتبر (أعلى عجز في الاتحاد الأوروبي) لم يعد مجرد مؤشرات اقتصادية، بل أصبحت تهديداً للسيادة الوطنية، حيث أن فرنسا، بقواعد الانضباط المالي للاتحاد الأوروبي، لم تعد قادرة على إدارة ديونها، مما يضعها في موقف شبيه بموقف اليونان أثناء أزمتها، وإن كان على نطاق أكبر وأكثر خطورة، فرنسا مثقلة بالديون لدرجة أنه لا تتفوق عليها في الاتحاد الأوروبي سوى اليونان وإيطاليا. وبنسبة تتراوح بين 5,4 و5,8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فإن الحكومة في باريس مسؤولة أيضا عن أعلى عجز في الميزانية في الاتحاد الأوروبي، فيما الحكومة اعترفت بتفاقم الدين العام إلى 3415 مليار أورو، أي ما يعادل 114 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مع نهاية الربع الأول من سنة 2025 واتساع الفجوة بين الإيرادات والنفقات.

ويضاف إلى ذلك تراجع النفوذ الدولي، حيث أن دولة تعاني من فراغ حكومي مستمر وشلل سياسي لا يمكنها أن تكون لاعباً موثوقا به في إدارة الأزمات الدولية (أوكرانيا، الشرق الأوسط)، فضلا عن تناقص قدرتها على اتخاذ قرارات استراتيجية سريعة وحاسمة يضعف موقعها في المحافل الدولية.

الأبعاد الاجتماعية والنسق السياسي: الشارع كفاعل مركزي

يجب قراءة الأزمة السياسية عبر عدسة الصراع الاجتماعي، من خلال فجوة النخبة كما أبرزه تصريح غابرييل أتال الذي وصف الوضع بـ "السيرك حول المناصب والمواقع" يلخّص حالة السخط الشعبي من الطبقة السياسية التي تبدو منفصلة عن معاناة المواطن الذي يعاني من الغلاء وتبعات السياسات التقشفية وتهديد الاحتقان الاجتماعي، إذ أن الفراغ الحكومي وغياب التوجه الواضح "يُؤجج الشارع مرة أخرى". إن عجز النظام عن إنتاج حكومة مستقرة يخلق فراغاً تميل لملئه القوى الاجتماعية المنظمة (كالنقابات) أو العفوية (كالاحتجاجات الشعبية)، مما يهدد بالعودة إلى دوامة من الاحتجاجات كما حدث مع حركة "السترات الصفراء". وأخيرا استراتيجية ماكرون المحفوفة بالمخاطر، إذ يبدو أن استراتيجية ماكرون تتمثل في تصعيد الأزمة حتى تصل إلى ذروتها، ربما أملا في إجبار القوى السياسية على قبول حلول غير محببة (كالإصلاحات التقشفية) أو حتى الدعوة إلى انتخابات جديدة في لحظة "صحوة" شعبية، لكن هذه المقامرة تحمل خطر انهيار النظام بأكمله إذا ما خرجت عن السيطرة.

ولا تعدّ استقالة لوكورنو نهاية المطاف، بل هي فصل جديد في مشهد الأزمة الفرنسية المستعصية. النظام السياسي القائم على "الجمهورية الخامسة" يواجه اختباراً وجودياً. الحلول التقليدية (حل الحكومة، تعيين رئيس وزراء جديد) لم تعد مجدية.