تشكل الحرب في غزة نموذجا فريدا في الصمود الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية أمام جيش الاحتلال الصهيوني، رغم اختلال موازين القوة العسكرية والمادية. فبعد أكثر من 20 شهرا من القتال، لا تزال المقاومة تحدث خسائر مادية وبشرية في صفوف العدو، مستخدمة تكتيكات حرب العصابات والعمليات المركبة، مثل كمين خان يونس الأخير الذي تم خلاله القضاء على سبعة جنود صهاينة بينهم ضابط.
هذه المعادلة تطرح أسئلة جوهرية حول كيفية نجاح المقاومة في إدارة المعركة رغم الحصار والتدمير المنظم، وكيف توظف النظريات الإستراتيجية والجيوسياسية لتحقيق أهدافها وتوظف أدوات تحولها المقاومة إلى نقاط قوة.
تعتمد المقاومة الفلسطينية على مقاربة الحرب اللامتوازية (Asymmetric Warfare)، حيث تواجه ضمن موازين قوى غير متكافئة قوة عسكرية بأساليب غير تقليدية تعوض نقص العدد والعدة. وتتجلى هذه النظرية في تكتيكات حرب العصابات، من خلال الخلايا الصغيرة المرنة، حيث تعمل المقاومة بخلايا من 3 إلى 5 أفراد، ما يصعب اكتشافها ويُعزز القدرة على المناورة، استخدام الكمائن المركبة مثل كمين خان يونس، الذي جمع بين العبوات الناسفة، قذائف "الياسين 105" ورشاشات الأسلحة الخفيفة وتوظيف الأنفاق والكر والفر، حيث تُستخدم الأنفاق لمباغتة العدو ثم الانسحاب السريع قبل الرد الجوي أو البري.
كما نجحت المقاومة في التجديد وتدعيم صفوفها وضمان تجديد قيادتها، مع استشهاد القادة البارزين من الصف الأول، على غرار يحيى السنوار (17 أكتوبر 2024) وقبل السنوار، في جويلية من العام الجاري، اغتالت تل أبيب إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة في الخارج، في قلب العاصمة الإيرانية طهران، كما اغتالت قائد الأركان محمد الضيف (جانفي 2025)، ومروان عيسى، نائب القائد العام لكتائب عز الدين القسام (26 مارس 2025)، ورافع سلامة قائد لواء خان يونس في كتائب القسام (13 جويلية 2024)، كما اغتال الكيان بغارة جوية كذلك أحمد الغندور، العضو البارز في المجلس العسكري العام لكتائب القسام وقائد كتيبة شمال غزة. وأواخر شهر جويلية 2024 أعلن جيش الاحتلال اغتيال روحي مشتهى، ووصفه برئيس حكومة حماس في غزة، إلى جانب سامح السراج، المسؤول عن ملف الأمن لدى المكتب السياسي في الحركة، وسامي عودة، رئيس جهاز الأمن العام في حماس. كما أعلن الكيان اغتيال قائد كتائب القسام، محمد السنوار في 13 ماي 2025 في مدينة خان يونس، ومع ذلك أبانت المقاومة عن القدرة على تجديد قيادتها والتكيف مع الأوضاع الصعبة.
ورغم أن الجيش الصهيوني يحاول حصر تحركاته في مناطق حدودية مدمرة بعدما أجبر سكانها على إخلائها لتجنب الاحتكاك المباشر مع المقاومين الفلسطينيين، فإن الكمائن التي تقوم بها المقاومة وعمليات يشهدها شرقي غزة وجباليا وبيت حانون تكشف عن تخطيط ورصد ميداني دقيق من قبل المقاومة الفلسطينية لتحركات الجيش الصهيوني في أماكن وجوده داخل قطاع غزة.
وتشير عمليات المقاومة الأخيرة إلى اعتماد الفصائل الفلسطينية بغزة على تكتيكات جديدة تمكنهم من الاستمرار في المواجهة، بعد مرور 21 شهرا على الحرب، وبما يضمن إيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف جنود الاحتلال.
استنزاف العدو وتفوق المعلومات
تبنت المقاومة الفلسطينية تكتيكات حربية تتواءم والوضع الميداني، تساهم في إيلام العدو واستنزافه، من خلال تجنب المواجهة المباشرة، حيث تُفضل المقاومة الاشتباكات القصيرة والمباغتة لاستنزاف العدو دون خسائر كبيرة في صفوفها، مستفيدة من معرفة التضاريس ومعرفة الميدان، حيث تحول المقاومة البيئة الحضرية في غزة إلى ساحة قتال لصالحها، بينما يعاني الجيش الصهيوني من صعوبة التكيف مع حرب الشوارع.
بالمقابل، يسجل فشل العقيدة العسكرية الصهيونية، بما فيها عقيدة "أيزنكوت" (التدمير الشامل) التي تعتمد فيها إسرائيل على تدمير البنية التحتية لتحطيم إرادة المقاومة لكنها فشلت في كسر شوكتها، مع محدودية فاعلية القوة الجوية، حيث يصبح الغطاء الجوي الصهيوني غير قادر على مواجهة مقاومين يتحركون كـ"أشباح" في البيئة المدنية، مع دائرة اشتباك ضيقة.
ونفس الأمر يسري على خطة الجنرالات التي تهدف إلى السيطرة على شمال قطاع غزة، بتهجير سكان المنطقة إلى الجنوب، ثم فرض حصار كامل على الشمال، بما في ذلك منع دخول الإمدادات والمساعدات الغذائية والماء والوقود واستخدام التجويع وسيلة ضغط للتهجير، وهي الخطة العسكرية التي اقترحها الجنرال السابق في الجيش الصهيوني "غيورا آيلاند" على بنيامين نتنياهو وتبناها عدد كبير من جنرالات الجيش الصهيوني ووضعت منذ سبتمبر 2024 بهدف تهجير سكان شمال قطاع غزة قسرا، وذلك بفرض حصار كامل على المنطقة، بما في ذلك منع دخول المساعدات الإنسانية لتجويع من تبقى من المدنيين وكذلك المقاومين ووضعهم أمام خيارين إما الموت أو الاستسلام.
ولا تقتصر معركة غزة على الصراع العسكري، بل تمتد إلى أبعاد جيوسياسية معقدة من خلال تغيير أولويات الكيان الصهيوني وإعادة غزة إلى الواجهة، بعد محاولة نتنياهو تحويل التركيز إلى إيران ولبنان، حيث عادت غزة لتذكر الاحتلال بأنها الجبهة الأكثر استنزافا، مع تسجيل تأثير الخسائر البشرية فكل عملية ناجحة للمقاومة تعيد إثارة الجدل في الشارع الصهيوني حول جدوى الحرب.
بالمقابل، نجد أن هنالك رهانا على الصراع النفسي فأي عملية أسر لجنود (كما حدث في كمين خان يونس المحتمل) تضعف الروح المعنوية للعدو وتزيد الضغط على حكومته، مع فشل سياسة "الأرض مقابل الجثث"، وفق مقاربة أو بروتوكول هانيبال، حيث إن المقاومة تثبت أنها قادرة على أسر جنود أحياء، ما يعقد حسابات الصهاينة.
وتبقى غزة شوكة في حلق الكيان، مع فشله في تحقيق "النصر" أو الحسم الذي يضعف شرعيته دوليا ويدفع نحو مزيد من العزلة، خاصة مع إمعانه في سياسة الأرض المحروقة والمجازر في حق المدنيين.
ويمكن تحليل صمود المقاومة عبر نظريات متعددة، منها نظرية "القوة الذكية" (Smart Power)، حيث تدمج المقاومة بين القوة الصلبة (العسكرية) والقوة الناعمة (الشرعية الشعبية)، ما يجعلها صامدة رغم الحصار، ونظرية "المقاومة الشعبية" (People’s War)، فكما في نظريات "ماو تسي تونج" و"تشي جيفارا" تعتمد المقاومة على دعم الشعب والبيئة الحاضنة، ما يجعل القوة العسكرية التقليدية عاجزة عن القضاء عليها، إلى جانب نظرية "الردع اللامتماثل"، حيث تمتلك المقاومة أدوات ردع غير تقليدية (مثل الصواريخ المحلية والأسرى)، ما يجبر العدو على حساب تكلفة أي هجوم.
غزة.. معادلة الاستنزاف التي لا تنتهي
تكتب المقاومة الفلسطينية في غزة فصولها كدرس استراتيجي في كيفية تحويل الضعف إلى قوة، عبر تكتيكات حرب العصابات المرنة والاستفادة من الأبعاد الجيوسياسية لتحقيق مكاسب سياسية وتوظيف نظريات الصراع الحديثة لمواجهة جيش نظامي متفوق. ولا يعد الكمين الأخير في خان يونس سوى حلقة في سلسلة عمليات تثبت أن المقاومة لم تهزم، بل أعادت تشكيل معادلة الصراع لصالحها.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال