نبدأ القصة من الأسئلة التالية: من بين 2297 مسجونا فرنسا، هل بوعلام صنصال، الذي حصل حديثا على الجنسية الفرنسية، هو الوحيد الذي يثير اهتمام الفرنسيين؟ ماذا تخفي هذه القضية؟ لماذا يهتم الفرنسيون بشخص واحد من بين آلاف السجناء القابعين في السجون الأجنبية؟
تشير المعطيات الرسمية الصادرة عن وزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية إلى أن عدد المواطنين الفرنسيين المحتجزين في الخارج بلغ 2297 حالة في عام 2023 و2071 حالة جديدة في الأشهر الثمانية الأولى من 2024، ويثير التركيز الاستثنائي على قضية بوعلام صنصال، حديث التجنيس، تساؤلات كثيرة حول خلفيات هذا الاهتمام، خاصة في الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية.
يعلم الجميع أنه تم توقيف بوعلام صنصال في الجزائر العاصمة، وإثر تحقيقات أُحيل على القضاء، حيث جرت محاكمته أمام مجلس قضاء الجزائر وثبتت إدانته بتاريخ 1 جويلية الجاري بخمس سنوات سجنا نافذا.
وقد أُعلن الحكم في جلسة علنية اتسمت باحترام الإجراءات القانونية، ليصبح بذلك واحدا من مئات الفرنسيين المسجونين في الخارج، لكنه الشخص الوحيد الذي نال هذا الحجم الهائل من التضامن السياسي الفرنسي، خاصة من تيار اليمين المتطرف واللوبي الصهيوني بفرنسا.
ورغم وجود أكثر من ألفي معتقل فرنسي حول العالم، فإن اللافت للانتباه أن قضية هذا الشخص أصبحت محورية في الإعلام الفرنسي، خصوصا لدى اليمين المتطرف الذي تبنى الدفاع عنه بشراسة، وقبل ذلك دفع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير خارجيته جان نويل بارو إلى التوسل للسلطات الجزائرية من أجل إخلاء سبيله والسماح له بالعودة إلى موطنه فرنسا!! علما أنه جاء إلى الجزائر بجواز سفره الجزائري "الأخضر"، بعدما عاث فسادا في قضايا التاريخ والهوية والوجود والحضارة، متذرعا بحرية التعبير.. وهذا ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول دوافع هذا الاستفزاز المثير للاهتمام.
هل هو توظيف سياسي من طرف اليمين المتطرف ضد الجزائر؟ الجواب: يدافع اليمين المتطرف الفرنسي عن صنصال انطلاقا من عدة اعتبارات نجملها في ما يلي.. أولا: حرية التعبير كذريعة سياسية، حيث يعتبر اليمين المتطرف أن اعتقال صنصال يشكل تهديدا لحرية التعبير، خاصة بعد تصريحاته المثيرة للجدل حول الحدود الجزائرية.
وعلى الرغم من الطابع الاستفزازي لتصريحاته، يقدمه اليمين كـ"ضحية سياسية" لإبراز التناقض بين ما يعتبرونه "ديكتاتورية الجزائر" و"قيم الجمهورية الفرنسية".
ثانيا: استغلال داخلي لتصفية حسابات، وهنا يمكن القول إن ملف صنصال يجري استغلاله كورقة ضغط في صراعات سياسية داخل فرنسا ضد الحكومة الحالية أو خصوم سياسيين آخرين، وإن دعم هذه القضية يوفّر لليمين المتطرف فرصة لتقديم نفسه كمدافع عن الحريات، في حين يرى مراقبون أن الهدف الحقيقي هو مهاجمة الجزائر دولة وقيادة وشعبا وهوية وتاريخا وانتماء وتأثيرا في فضاءاتها الثلاثة العربي – الإسلامي والمتوسطي والإفريقي، وذلك ضمن أجندة سياسية مبيتة.
كما يضع المهتمون بهذه القضية مسألة الامتداد التاريخي للعداء الاستعماري لكل ما جزائري، إذ أن خلف هذا الاهتمام يقبع إرث طويل من العداء تجاه الجزائر، متجذر في عقلية اليمين المتطرف الذي لم يتقبل إلى اليوم نهاية الحقبة الاستعمارية. بل ويجد هؤلاء في صنصال رمزية خاصة، معتبرين إياه معارضا للنظام الجزائري ويتحدث من منابر فرنسية، بما يخدم خطابهم المتشدد حول الهوية والتاريخ.
كما يستخدم اليمين المتطرف القضية لتعزيز أطروحاته حول الهوية الوطنية والهجرة ويقدم صنصال كـ"فرنسي حقيقي" رغم تجنيسه الحديث، في محاولة لتبييض صورته والتأكيد على "التزامه" بالقيم الفرنسية مقابل ما يصورونه على أنه "قمع جزائري".
ورغم أن الدعم الأكبر لصنصال يأتي من اليمين المتطرف، إلا أن مواقف باقي الطيف السياسي والثقافي الفرنسي أكثر توازنا، إذ اعتبر البعض هذا الدعم مجرد استغلال سياسي لا علاقة له بالدفاع الحقيقي عن الحريات للتغطية على سقوط فرنسا المدوي في فخ إعلان رئيسها ماكرون دعمه لخرافة "مغربية" الصحراء الغربية، بالرغم من أنها عضو دائم في مجلس الأمن الأممي وضامن لاحترام القانون الدولي والحياد والاستقرار الدولي! وبالرغم من تحذيرات عقلاء "الكيدورسي" له من عواقب الانخراط في هذه المغامرة غير المحسوبة العواقب. ومن الأجوبة للتساؤلات الكبيرة المذكورة في مقدمة هذا المقال أنه من خلال استغلال اليمين المتطرف الفرنسي لقضية صنصال، تتجاوز هذه الأخيرة حدود المحكمة ومجريات المحاكمة لتتحول إلى أداة ضمن معركة سياسية بين باريس والجزائر وداخل الساحة الفرنسية ذاتها، كما تكشف المفارقة بين تعامل فرنسا مع آلاف المسجونين من مواطنيها في الخارج مقابل هذه الحالة التي نالت تغطية استثنائية وتعاطفا سياسيا غير مسبوق.
وكون كل التوقعات تشير إلى استمرار الأزمة بين البلدين وأن لا بوادر لانفراجها في المستقبل المنظور، فإن قضية بوعلام صنصال تبقى نموذجا حيا على كيف يمكن لقضية قانونية فردية أن تتحول إلى مادة سياسية وأيديولوجية حساسة، تتداخل فيها حسابات السياسة الخارجية وتاريخ الاستعمار وصراع الهوية وتوظيف فصيل من الإعلام الفرنسي الموجه أبشع توظيف من أجل التدمير الذاتي، ما يجعلها أكثر من مجرد ملف قضائي، بل مرآة عاكسة لأزمة عميقة في النظام الفرنسي الذي يبحث عن طوق نجاة لتأخير الإعلان عن انهيار الجمهورية الخامسة التي تأسست بأزمة مع الجزائر في 1958 بمجيء الجنرال شارل ديغول لإنقاذ فرنسا.
وكما بدأنا المقال بأسئلة نختمه بسؤال: لماذا صنصال تحديدا؟ الجواب: لأنه شجرة تغطي غابة من الفضائح والأسرار المدوية، وأمنية إطلاق سراحه في عيد استقلال الجزائر غير قابلة للتحقيق، في مناخ انتخابي ملتهب في فرنسا بين ضرائر اليمين المتطرف، فضلا عن أن الجزائر اليوم ليست بذلك البلد الذي يملى عليه ما يجب قوله أو فعله.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال