الوطن

قانون الذاكرة يعري ازدواجية باريس

عجز مزمن لفرنسا عن تقبل أي مقاربة جزائرية مستقلة لملف الذاكرة.

  • 508
  • 3:22 دقيقة
الصورة: م.ح
الصورة: م.ح

تعود الذاكرة الاستعمارية مرة أخرى لتتصدر واجهة التوتر في العلاقات الجزائرية الفرنسية، بعد تصويت البرلمان الجزائري بالإجماع على قانون تجريم الاستعمار الفرنسي للجزائر خلال الفترة الممتدة من 1830 إلى 1962، في خطوة سيادية بامتياز، جاءت بمبادرة برلمانية واضحة، ومباركة رئاسية صريحة، تعكس نضجا سياسيا ووعيا متقدما بأهمية تحصين الذاكرة الوطنية بنصوص قانونية لا تقبل التأويل أو المساومة.

غير أن رد الفعل الفرنسي، الذي وصف هذا المسعى بـ"المبادرة العدائية"، لم يكن مفاجئا بقدر ما كان كاشفا. كاشفا عن سياسة الكيل بمكيالين التي تعتمدها باريس في تعاملها مع الجزائر، وعن عجز مزمن عن تقبل أي مقاربة جزائرية مستقلة لملف الذاكرة، خارج الوصاية الفرنسية أو السردية الأحادية التي تحاول فرضها منذ عقود.

ففرنسا التي عبرت عن انزعاجها من قانون جزائري يجرم الاستعمار، هي نفسها التي بادرت، قبل قرابة عشرين سنة، وتحديدا في 23 فبراير 2005، إلى سن قانون يمجد الاستعمار، ويصف الاحتلال الفرنسي في المستعمرات السابقة، ومنها الجزائر، بالدور الإيجابي، بل وذهبت أبعد من ذلك حين ألزمت المؤسسات التعليمية والجامعية بتلقين هذا التصور، في محاولة فجة لتبييض صفحة استعمار دام 132 سنة، كان عنوانه القمع والنهب والإبادة الثقافية والإنسانية.

يومها، لم تر باريس في قانونها مساسا بذاكرة الشعوب، ولا استفزازا لدول مستقلة، بل اعتبرته شأنا داخليا يدخل ضمن سيادتها الوطنية.

أما اليوم، حين يسن البرلمان الجزائري قانونا يعبر عن رؤية وطنية للذاكرة، ويؤسس لموقف قانوني واضح من الماضي الاستعماري، فإن فرنسا ترى فيه عملا عدائيا يهدد الحوار ويعقد العلاقات الثنائية.

هذا التناقض الصارخ يختزل جوهر الإشكال. إذ أن باريس تريد احتكار حق التشريع حين يخدم سرديتها، وترفضه حين يصدر عن الطرف الآخر.. هي تريد ذاكرة على المقاس الفرنسي، وحوارا بلا اعتراف، ومصالحة بلا اعتذار. وهي معادلة لم تعد الجزائر الجديدة المنتصرة مستعدة للقبول بها.

وللتذكير فقط، فإن فكرة تجريم الاستعمار ليست جديدة في الجزائر. فقد طرحت بقوة سنة 2005، كرد مباشر على قانون تمجيد الاستعمار الفرنسي. حينها، بادر نواب في البرلمان، يتقدمهم موسى عبدي ومحمد حديبي، إلى اقتراح مشروع قانون يجرم الاستعمار، ويدحض قانونيا فرضية الفوائد والمنافع التي تزعم فرنسا أن الجزائر جنتها من الحقبة الاستعمارية.

غير أن هذا المشروع تعرض للوأد في مهده، بفعل تردد سياسي واضح، تزامن مع مرض الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، ونقله إلى باريس للعلاج، في ظرف داخلي ودولي حساس.

وقد برر الوزير الأول الأسبق أحمد أويحيى آنذاك تعطيل المشروع بالقول إن تجريم الاستعمار يندرج ضمن السياسة الخارجية للدولة، وهي من صلاحيات رئيس الجمهورية، وليس البرلمان. كما لعب رئيس المجلس الشعبي الوطني في تلك الفترة، عبد العزيز زياري، دورا إجرائيا معرقلا، عبر إرجاع المشروع بدعوى الاختصاص، وتحويله إلى مراسلات عقيمة بين الحكومة والبرلمان، انتهت فعليا بإجهاضه.

اليوم، وبعد مرور عقدين على قانون 23 فبراير 2005 الفرنسي، تعود الجزائر إلى طرح الملف، ولكن هذه المرة من موقع قوة سياسية ومؤسساتية، وبإرادة واضحة لطي صفحة التردد.

هذا القانون الذي صادق عليه البرلمان يتضمن خمسة فصول و27 مادة، تهدف إلى تثبيت المسؤوليات، والاعتراف بالجرائم الاستعمارية، واعتبار الاعتذار أساسا لأي مصالحة حقيقية مع التاريخ، وحماية الذاكرة الوطنية من محاولات التزييف والطمس.

في الضفة الأخرى، لم يخل الرد الفرنسي، الذي صدر عن وزارة الخارجية -لم يخل- من الازدواجية. فمن جهة، أكدت باريس أنها "غير معنية بالتعليق على السياسة الداخلية الجزائرية"، ومن جهة أخرى، اعتبرت تصويت البرلمان الجزائري مبادرة معادية تمس بالرغبة في استئناف الحوار وتهدئة النقاشات التاريخية.

أما التذكير المتكرر بلجنة المؤرخين المشتركة التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون، فلا يعدو أن يكون محاولة للالتفاف على جوهر القضية، وحصرها في إطار أكاديمي تقني، بدل التعامل معها كملف سيادي وأخلاقي وسياسي بامتياز.

الأخطر من ذلك، أن باريس ما تزال تستعمل ملفات أخرى كورقة ضغط، من بينها إلغاء اتفاقية 1968، وتأليب الرأي العام الفرنسي عبر ملف الهجرة والجالية الجزائرية، التي تشكل أكبر جالية أجنبية في فرنسا. وهي أدوات تعكس ذهنا سياسيا استعماريا قديما، يراهن على لي ذراع الجزائر، ودفعها نحو تقديم تنازلات في قضايا الذاكرة والتاريخ والاقتصاد.

إن تصويت البرلمان الجزائري على قانون تجريم الاستعمار ليس عملا عدائيا، بل رد سيادي متأخر على تشريع فرنسي استفزازي. وهو رسالة واضحة مفادها أن احترام الذاكرة شرط لأي علاقة متوازنة، وأن زمن الصمت والتردد قد انتهى. أما سياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها باريس، فلن تنتج سوى مزيد من التوتر، في وقت تحتاج العلاقات بين البلدين إلى شجاعة تاريخية حقيقية، لا إلى ازدواجية في المعايير ولا إلى قوانين تمجد الاستعمار وتستنكر تجريمه.