لطالما مرت علاقات الجزائر وفرنسا بمطبات متتالية منذ الاستقلال، لكن عهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، سجل موجة من التوترات غير المسبوقة أعادت إلى الواجهة الأسئلة القديمة حول حقيقة نوايا فرنسا.
كانت الشرارة الأولى في أكتوبر 2021، حين نقلت صحيفة "لوموند" الفرنسية، تصريحات للرئيس ماكرون شكك فيها في وجود "أمة جزائرية" قبل الاستعمار الفرنسي، واعتبر أن "النظام السياسي الجزائري يعيش على ريع الذاكرة". هذه العبارات التي اعتبرتها الجزائر مهينة واستعمارية الطابع، فجّرت أزمة دبلوماسية حادة وردّت عليها الجزائر باستدعاء سفيرها من باريس فورا، وقررت منع الطائرات العسكرية الفرنسية من عبور أجوائها، في خطوة غير مسبوقة منذ الاستقلال. كما عبّر الرئيس عبد المجيد تبون عن غضبه قائلا: "لا يمكن أن نتسامح مع الإهانة والتاريخ الوطني ليس سلعة للتداول السياسي".
أزمة التأشيرات
في نفس الفترة أعلنت فرنسا عن قرار تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين بنسبة 50%، بذريعة رفض الجزائر إعادة رعاياها من المهاجرين غير الشرعيين. القرار اعتبر ابتزازا سياسيا وترك أثرا نفسيا كبيرا على الجالية الوطنية في فرنسا، حيث رأت في الخطوة عقوبة جماعية تستهدف المواطنين العاديين.
المصالحة المؤقتة
وسط أزمة الطاقة العالمية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، زار ماكرون الجزائر في أوت 2022 رفقة وفد رفيع المستوى، حيث حملت الزيارة عنوان "تجديد الشراكة"، وتم خلالها التوقيع على إعلان مشترك يخص التعاون الاقتصادي والثقافي والجامعي، لكن كثيرين رأوا أن الزيارة كانت مدفوعة بحاجة فرنسية إلى الغاز أكثر منها رغبة في تجاوز ملفات الذاكرة. ورغم الخطاب الإيجابي، بقيت القضايا الجوهرية مثل الاعتذار عن الاستعمار وفتح كامل للأرشيف وتعويض ضحايا التجارب النووية دون حلّ.
أزمة أميرة بوراوي
بعد أشهر قليلة على الزيارة، تفاقم التوتر بين الجزائر وباريس بشكل حاد على خلفية قضية أميرة بوراوي، الرعية الفرانكو- جزائرية التي كانت ممنوعة من مغادرة الجزائر بسبب متابعات قضائية، إلا أنها تمكنت من الدخول إلى تونس بشكل غير قانوني، قبل تدخل السفارة الفرنسية في تونس لتسهيل خروجها إلى باريس عبر مطار قرطاج. واعتبرت الجزائر ذلك خرقا سافرا لسيادتها وتدخّلا مباشرًا في شؤونها الداخلية، وردّت بشكل فوري عبر استدعاء سفيرها في باريس واتهام فرنسا بتنظيم "تهريب غير قانوني" لمواطنة مطلوبة قضائيًا.
وقالت الخارجية الجزائرية في بيان شديد اللهجة وقتها، إن ما حصل "غير مقبول وغير مبرر"، مشيرة إلى أن الحادثة ألقت بظلالها على مناخ الثقة بين البلدين، واعتبرت أن باريس اختارت الاصطفاف مع "أطراف معادية لمصالح الجزائر".
أما فرنسا، فقد برّرت تدخلها بأنه يندرج ضمن "حماية حقوق الإنسان"، لكن الرواية لم تلقَ قبولا رسميا أو شعبيا في الجزائر، بل اعتبرت استمرارية لسياسة فرنسية قديمة تتعامل مع الجزائر من موقع وصاية، لا من منطق الشراكة والنديّة التي يريد الرئيس تبون فرضها في علاقات الجزائر الدولية.
وفي آخر الأزمات بين البلدين، قضية اعتقال موظف قنصلي جزائري في فرنسا، التي أثارت جدلا واسعا في العلاقات بين البلدين، حيث اعتبرت الجزائر الخطوة تجاوزا للحصانة الدبلوماسية وانتهاكًا للحقوق السيادية وردّت بطرد مجموعة من الدبلوماسيين من الجزائر.
ويضاف إلى هذه المحطات خلاف مستمر ومتجدّد حول مراجعة وإلغاء اتفاقية الهجرة لسنة 1968 التي يستغلها اليمين المتطرف كوسيلة ابتزاز للضغط على الجزائر، وسط مواقف متقلبة من الرئيس الفرنسي سعيا لإرضاء جميع الجهات.
فشل مزدوج
رغم بداياته الواعدة ينظر إلى إيمانويل ماكرون اليوم كأكثر رؤساء فرنسا إخفاقا في إدارة العلاقة مع الجزائر. فرغم وصفه الاستعمار الفرنسي بـ "جريمة ضد الإنسانية" عام 2017، لم يقدّم اعتذارا رسميا ولم يفتح الأرشيف بشكل شامل، بل اكتفى بلجان تقنية ووعود فضفاضة.
بل الأسوأ، حسب محللين، أنه ارتكب أخطاء دبلوماسية فادحة، كتصريحاته المسيئة لتاريخ الجزائر وتعامله السياسي المزدوج، إذ كان يغازل الجزائر من جهة ويخاطب اليمين الفرنسي المتطرف من جهة أخرى. وهذا الخطاب المزدوج جعل الجزائر تشكّك في مصداقية باريس وترى في كل تقارب محتمل مجرد مناورة ظرفية لا تعكس نية حقيقية لتغيير جوهر العلاقة.
في المقابل، تبنّت الجزائر في عهد الرئيس تبون، خطابا أكثر حزما، قائما على مبدأ "الندية والسيادة"، ولم تعد تتردد في اتخاذ قرارات حادة حتى لو تعلق الأمر بدولة كبرى مثل فرنسا.
وقد استطاعت فرض خطوط حمراء في ملفات الذاكرة والسيادة والهجرة، ما أعاد ترتيب موازين القوى في العلاقة الثنائية.
يبقى التوتر بين الجزائر وفرنسا أكبر من مجرد تصريحات أو إجراءات دبلوماسية، إنه صراع حول التاريخ ومكانة الجزائر في العلاقات الدولية واحترام سيادتها كشريك لا كملحق استعماري سابق.
ورغم أن المصالح الاقتصادية والأمنية تدفع الطرفين للتعاون، فإن غياب الاعتراف الكامل من فرنسا بماضيها الاستعماري، واستمرارها في التعامل بمنطق التفوق، يجعل من كل تقارب مؤقتا وكل مصافحة مشروطة.
تغول اليمين المتطرف
ويشار أن فرنسا قد شهدت خلال فترة حكم الرئيس إيمانويل ماكرون، تصاعدا غير مسبوق في نفوذ اليمين المتطرف، إلى حدّ بات يهدد التوازنات السياسية التقليدية في البلاد.
وللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، يجد اليمين المتطرف نفسه في موقع يخوّله التأثير المباشر في سياسات الدولة وتوجيه النقاشات العامة، بل والضغط على الحكومة في ملفات الهجرة، الأمن والهوية الوطنية.
وقد تجلّى هذا التأثير في تبني الحكومة لقوانين أكثر تشدّدًا في ملف الهجرة، مثل قانون "الهجرة واللجوء" الذي صادق عليه البرلمان في 2024 والذي شدّد على شروط منح الإقامة وطرد الأجانب، وهو قانون لطالما طالبت به زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان.
وتحت غطاء "الجمهورية في خطر"، بات هذا التيار يضفي على خطابه طابعا مؤسساتيا، مستفيدا من خطاب ماكرون نفسه الذي في كثير من الأحيان تبنّى مقاربات أمنية صارمة وسياسات تقشفية زادت من فقدان الثقة باليسار واليمين التقليديين.
وبهذا ساهمت سياسات ماكرون، عن قصد أو عن غير قصد، في تمهيد الطريق لتغوّل اليمين المتطرف، ليصبح لاعبا رئيسيا يتحكم في نبرة الخطاب السياسي ويؤثر في مزاج الناخب الفرنسي، وربما يقترب أكثر من أي وقت مضى من عتبة الحكم.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال