الوطن

مجازر 8 ماي يمكن أن تتحول لقصص إنسانية عالمية

تخلد السينما المآثر والبطولات الشعوب في مواجهة الاحتلال، لكنها أيضا سلاح لكشف فظاعة هذا الاحتلال الذي يدعي انه جاء بالحضارة لهذه الشعوب.

  • 99
  • 7:40 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

يرى المتدخلون الذين استطلعت رأيهم "الخبر"، حول تناول السينما لمجازر 8 ماي 1945، بأنها لم تنل حظها سينمائيا وأن السينما الجزائرية كانت مجحفة اتجاه هذه المجازر التي مهدت لثورة الشعب الجزائري في وجه الاستعمار الفرنسي، وكانت منعرجا مهما لتحرير الوطن، وأن هذه المجازر تحتاج إلى عديد الأفلام الطويلة التي تسلط الضوء على منعرج مهم سرّع اندلاع الثورة التحريرية المجيدة، أفلام ترسم قصص كفاح إنسانية جسدتها الدماء الطاهرة التي سالت في سطيف وخراطة وڤالمة. ويعتقدون أن الانزياح في المعالجة السينمائية باتجاه البعد الإنساني هوالذي يُمكّن أفلام مجازر 8 ماي من الانتشار عالميا.

تخلد السينما المآثر والبطولات الشعوب في مواجهة الاحتلال، لكنها أيضا سلاح لكشف فظاعة هذا الاحتلال الذي يدعي انه جاء بالحضارة لهذه الشعوب، حيث تعمل الكثير من الشعوب على فضح هذه المجازر عن طريق التوثيق لها سينمائيا، من خلال أفلام وثائقية أو روائية عبر القصص الإنسانية التي لا تخلو منها الأحداث والمآسي والمجازر التي شهدتها الجزائر إبان الحقبة الاستعمارية على غرار مجازر 8 ماي 1945 بڤالمة وسطيف وخراطة. فلا تكفي الشهادات التي جمعتها الجزائر عن الحدث بل يجب دعمها بقصص سينمائية مؤثرة تروي المأساة من جانبها الإنساني وتدحض فكرة الاستعمار الحضاري الذي جاء لينقد الشعوب من بربريتها. ورغم فظاعة هذه المجازر فإنها لم تحظ بالتناول سينمائيا ما عدا أفلام تعد على الأصابع، لكنها مرت بجانب الحدث ولم تنقل إلا الرؤية الخارجية للأحداث ولم تتعمق في عمق المأساة الإنسانية وما لحق بسكان هذه المناطق وما انجر عنه من معاناة استمرت إلى ما بعد الاستقلال.

"مجازر 8 ماي لم تنل حقها سينمائيا"

ويؤكد كاتب السيناريو الطيب توهامي أن من خصائص السينما الجزائرية أنها سينما ثورية بامتياز، فأهم الأفلام الجزائرية منذ نشأتها هي أفلام تناولت الثورة الجزائرية كمادة أساسية. السينما الجزائرية التي نشأت في الجبل على يد بيار كليمون، روني فوتي، جمال شندرلي، ستيفإن لابودوفيتش، وغيرهم، قدمت أفلاما وثائقية من عمق الحرب البشعة، صورت مأساة شعب بأكمله يرزح تحت نير الاستعمار. مضيفا انه بعد مجيء الاستقلال لم تحد السينما الجزائرية عن مسارها، لتصور أفلاما طويلة عن الثورة، "ريح الأوراس" لحمينة، "معركة الجزائر" لبونتي كورفو، و"الأفيون والعصا" لأحمد راشدي، و"دورية نحو الشرق" لعمار العسكري، وغيرها من الأفلام. كلها تناولت أحداثا ومعارك من الثورة، لكن لم يعرج أحد من هؤلاء المخرجين الجزائريين الرواد على مجازر 8 ماي 1945، والاشتغال على سردها سينمائيا، ما عدا المخرج القدير محمد لخضر حمينة الذي تناول المجازر في فيلمه التحفة "وقائع سنين الجمر"، دون أن يركز على المجازر كبؤرة درامية مهمة في فيلمه، بل كانت مجرد سرد عابر، كذلك الراحل عمار العسكري الذي عرج عليها دون الغوص فيها في فيلمه الشهير "زهرة اللوتس"، حيث يرى أن مجازر 8 ماي 1945 ظلت على الرغم من فظاعتها وبشاعتها مجرد حدث تاريخي لم يحظ بالمعالجة الدرامية سينمائيا. ولعل أشهر الأفلام التي تناولت هذه المجازر هي أفلام رشيد بوشارب التي لا يمكننا اعتبارها صناعة سينمائية جزائرية مائة في المائة، لأن تمويلها كان فرنسيا. قدم رشيد بوشارب مسحة درامية لمجازر 8 ماي 1945 دون أن يتعمق فيها من خلال فيلمه "أنديجان"، ثم تبعها برؤية أكثر عمقا ودرامية في فيلمه "الخارجون عن القانون"، وأثبت علو مقامه الفني في صناعة لوحات درامية تمتاز بالصدق الفني والمصداقية في تناول هذه المجازر. وأوضح توهامي أن تخصيص فيلما كاملا عن مجازر 8 ماي 1945 لم يتحقق إلا مع المخرج جعفر قاسم الذي يكون أول مخرج جزائري يتناول مجازر 8 ماي 1945 في فيلم كامل من بدايته إلى نهايته، وهو فيلم "هليوبوليس" الذي قدم سردية سينمائية مختلفة عن مجازر 8 ماي 1945، وتمكن من الغوص في قصة إنسانية واجتماعية ترتبط بهذه الأحداث التي صنفت في خانة الإبادة الجماعية لشعب جزائري أعزل في مدينة ڤالمة.

يرى الطيب توهامي أن مجازر 8 ماي 1945 لم تنل حقها سينمائيا، وتحتاج إلى عديد الأفلام الطويلة التي تسلط الضوء على منعرج مهم سرّع اندلاع الثورة التحريرية المجيدة. أفلام ترسم قصص كفاح إنسانية جسدتها الدماء الطاهرة التي سالت في سطيف وخراطة وڤالمة. معتبرا أن ذلك طموح شرعي يحتاج من السيناريست الجزائريين إلى تفتيق مخيلتهم، لسرد قصص ملهمة تخلد جرائم الإبادة الجماعية، التي تلطخت بها أيادي الاستعمار الغاشم، داعيا الشباب المبدع في الكتابة السينمائية إلى رفع التحدي لكتابة سيناريوهات عميقة من الناحية الفنية تعكس جسامة المجازر التي راح ضحيتها أكثر من 45 ألف شهيد، مطالبا المخرجين الجزائريين بتطويع أدواتهم الفنية لتخليد هذه اللحظة التاريخية الفارقة في كفاحنا الوطني المعاصر من أجل نيل الاستقلال، من خلال إبراز رؤاهم الفنية التي يجب أن تكون مبتكرة، خلاقة ومبدعة تعطي لهذا الحدث التاريخي الكبير حقه من السرد السينمائي والدرامي.

"ما أنجز من أفلام عن مجازر 8 ماي يبقى خجولا"

في حين يعتقد الكاتب والناقد والباحث الدكتور سي حمدي بركاتي أن ثيمات عدة لم تأخذ حظها زيادة في التداول السينمائي الثوري، ربما تتعدد الأسباب في ذلك منها ما هي موضوعية ومنها ما هي ذاتية، ليست مجازر 8 ماي 1945 فقط من تحتاج منا إلى حكي سينمائي لإعادة استرجاع ما حدث فعلا في تلك المرحلة المؤلمة، بل ثمة ثيمات سقطت من أضواء السينما الثورية مثل المقاومات الشعبية التي تعد الأفلام الروائية التي أنتجت بخصوصها شحيحة بالنظر لاتساع رقعة المقاومات حينئذ، وإذ نسوق في هذا السياق ثيمات الثورة المعتمة نجد نضال الحركة الوطنية الذي سبق الثورة بسنوات لم يأخذ حقه كذلك من الإنتاج السينمائي إلى غاية اليوم استثناء بعض الهوامش التي جاءت في سياق توثيق سيرة قادة الثورة مثل مصطفى بن بولعيد والعربي بن مهيدي وغيرهم.

ويقول سي حمدي انه "وبالرجوع إلى مجازر 8 ماي الحدث الذي ساهم في تغيير قناعات الشعب الجزائري وقادة الحركة الوطنية وسرّع في إشعال فتيل الثورة، نجد أن السينما الثورية لم تعطه اهتماما ينسجم مع رمزيته الثورية وحجم الألم الذي ألحقه بالشعب الجزائري حينذاك".

ويرجع سي حمدي ذلك في تصوره "إلى أن أحداث الثورة الجسام وما خطه الثوار من ملاحم وبطولات خارقة حجبت هذه الثيمات الضوء على المجازر، لأن السينمائي الجزائري وهو إلى جانب ذلك مجاهد كان يغلب على مزاجه بعد الاستقلال التركيز على بطولات الجزائريين في إخراج الاستدمار الفرنسي أكثر من انزياحه إلى الحديث عن مجازرهم، لأن فرحة الاستقلال حينذاك كانت تحتاج إلى جرعات من هرمون الفخر والاعتزاز بالإنجاز المحقق فساهمت السينما في زيادة ضخ ذلك الهرمون"، مضيفا "ولأن موضوعات الثورة متشعبة وبالنظر لقلة مؤسسات الإنتاج حينها عدا مركز السينما مع تغير تسمياتها مع توالي السنوات لا يمكن بأي حال أن يستغرق كل الثيمات بما فيها المجازر"، موضحا "أضف إلى ذلك صعوبة إنتاج أفلام تتحدث عن مظاهرات حاشدة نتجت عنها مجازر ضخمة بالنظر للإمكانيات التي كانت متوفرة حينذاك، ربما انكفأ المخرجون على أنفسهم بدل المغامرة في هكذا إنتاج مخصص للمجازر، عدا بعض المشاهد التي جاءت في سياق أفلام أخرى مثل وقائع سنوات الجمر الأخضر حامينة 1975 وزهرة اللوتس لعمار العسكري 1999 وفيلمي رشيد بوشارب الأنديجان والخارجون عن القانون 2010، وثمة أفلام وثائقية خجولة تطرقت للمجازر أبرزها دم شهر ماي يزرع نوفمبر لرونيه فوتيه 1982، غير أن أبرز فيلم روائي تناول المجازر إجمالا وتفصيلا هو فيلم هليوبوليس لجعفر قاسم 2021.

يختم سي حمدي بالاعتراف بأن ما أنجز من أفلام إلى غاية اليوم عن مجازر 8 ماي يبقى خجولا جدا أمام أرواح من ارتقوا في تلك المأساة، وأعتقد أن الانزياح في المعالجة السينمائية باتجاه البعد الإنساني هو الذي يمكن أفلام مجازر 8 ماي من الانتشار عالميا وفضح الاستعمار الفرنسي الذي صادق برلمانه في شهر فبراير العام 2005 على قانون يمجد الاستعمار، ويعتبر ما قامت به فرنسا في الجزائر ومستعمراتها الإفريقية هو نشر للحضارة وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

"عدم تناول المجازر يُعد فراغًا كبيرًا في ذاكرة السينما الوطنية"

ويرى الكاتب والناقد السينمائي جمال محمدي أن حضور السينما الجزائرية والأفلام الجزائرية في تناول مجازر 8 ماي 1945 لم يكن معمقا، وكان محدودًا جدًا، والأفلام التي تناولتها تعد على الأصابع، رغم كونها لحظة مفصلية في الوعي الوطني الجزائري، غير أنها كباقي المحطات التاريخية لم تُتناول سينمائيًا بالشكل الذي يليق بها.

مشيرا إلى أنه ما عدا بعض المشاهد العابرة، مثل افتتاحية فيلم وقائع سنين الجمر (1975)، فيلم "الم" للمخرج محمد حازورلي (1975) وأخيرا ربما فيلم هليوبوليس (2021 )، للمخرج جعفر قاسم، الذي يستمد قصته من وقائع حقيقية من هذه المجازر، التي تمثل مرحلة هامة في مسار نضال الشعب الجزائري من اجل الاستقلال. ربما فيه أعمال أخرى، لكن لا يوجد عمل بارز خصص مساحة كافية ويُجسد حجم هذه المأساة التي ذهب ضحيتها أكثر من 45 ألف شهيد كما يجب.

يؤكد جمال محمدي أن هناك تقصيرا واضحا في هذا الجانب: السينما الجزائرية منذ الاستقلال ركّزت على مرحلة ثورة نوفمبر 1954، رغم أنها لم تأخذ هي الأخرى حقها في السينما، أهملت إلى حد كبير الفترات التأسيسية التي سبقتها، ولكن من المهم التذكير أيضا أن مراحل المقاومة الأخرى لم تنل الاهتمام المطلوب، ومن بينها مجازر سطيف، ڤالمة وخراطة من عام 1945 التي لم يُنتج عنها إلا العدد القليل جدا كما أشرنا سابقا، وتحتاج إلى أفلام وأشرطة وثائقية كبيرة تروي هذه المجازر من وجهة نظر الضحايا، أو لنظهر للعالم والجمهور بشاعتها والحجم الحقيقي لها، وهذا يُعد فراغًا كبيرًا في ذاكرة السينما الوطنية.

يتأسف جمال حمدي كون السينما الجزائرية لم تنجح حتى الآن في تقديم مجازر 8 ماي 1945 بحجمها الإنساني والتاريخي، قائلا "نحن بحاجة إلى عمل سينمائي كبير، يضاهي ما فعلته شعوب أخرى مع مآسيها، لنأخذ مثلا فيلم "فندق رواندا" (Hotel Rwanda 2004)، متسائلا "فما بالنا نحن حتى الآن لم ننجز فيلما ملحميا يخلّد ذاكرة شهداء وضحايا هذه المجاز الشنيعة ونقدمه للعالم بلغة فنية وسينمائية وإنسانية تُخاطب العالم".

ويؤكد جمال محمدي أن مجازر 8 ماي 1945 ليست مجرد صفحة من الماضي، بل هي جرح مفتوح في الذاكرة الوطنية، وصرخة لا تزال تنتظر من يوصلها إلى العالم، وعلى السينما الجزائرية أن تتحرر من الرؤية التقليدية في إنتاج أفلام موسمية خاصة بالثورة، وعلينا أن نغامر بخوض هذا الملف بجرأة فنية وإنسانية.. نحتاج إلى فيلم يُجسد الحقيقة كما عاشها الشهداء، لا كما تُكتب في كتب التاريخ. السينما تملك القدرة على إحياء الذاكرة، ولكنها تحتاج إلى قرار، ورؤية، وإيمان.. وبرأيي أن مأساة 8 ماي 1945 لم ترو سينمائيا بعد.