حاوره: م. دكار
أظهرت تصريحات مسؤولين فرنسيين بشأن العلاقات الجزائرية–الفرنسية،مؤخرا، تطورًا لافتًا بعد التعديل الذي عرفته الحكومة الفرنسية، ورحيل وزير الداخلية المثير للجدل برونو روتايو، الذي اتسمت فترته بتوتر حاد مع الجزائر، ليخلفه لوران نونيز الذي أبدى منذ توليه المنصب نية في مراجعة النهج القائم و"إعادة الدفء" إلى العلاقات الثنائية، خصوصًا في الملفات الأمنية والهجرة.حول مآلات هذا التحول، ومستقبل اتفاقية 1968، وأسس مقاربة جديدة للعلاقة بين البلدين، حاورنا المحلل السياسي الدكتور نوفل براهيمي الميلي، وهو القائل مؤخرا"حان الوقت لاعتماد مقاربة جديدة في العلاقات الجزائرية – الفرنسية".
بداية، دكتور نوفل الميلي، كيف تقرؤون التغيير الذي عرفته وزارة الداخلية الفرنسية برحيل برونو روتايو ومجيء لوران نونيز؟
يجب أولًا إعادة سرد الخطوط العريضة لمسار الحكومات الفرنسية المتعاقبة الأخيرة. ففي أصل هذه الأزمات السياسية، توجد خطوة حلّ الجمعية الوطنية المثيرة للجدل، التي أقدم عليها الرئيس ماكرون في يونيو 2024. وقد نتج عن ذلك برلمان جديد مشتت بين ثلاثة كتل أو أكثر، حيث لا يملك حزب الجمهوريين (LR) وحلفاؤه سوى 66 مقعدًا من أصل 577، أي بنسبة 11% فقط، وذلك بفضل اليسار الذي أراد سدّ الطريق أمام حزب التجمع الوطني (RN)، حتى لو كان ذلك عبر دعم انتخاب عدد كبير من نواب اليمين الجمهوري. ويجدر التوضيح أن نتائج الجمهوريين لم تكن تتجاوز 6% إلى ذلك الوقت.
نعود إلى برونو روتايو، رئيس حزب الجمهوريون الفرنسي، الذي بلغ الحدّ الأقصى من كفاءته كسيناتور، حيث حظي بدعم ناخبين غير مباشرين في منطقة فونديه، معظمهم من اليمين الكاثوليكي المحافظ. وعلى مدى سنوات طويلة، انغمس روتايو في معارضة شرسة ومنهجية لإيمانويل ماكرون. ثم فجأة، وفي 21 سبتمبر 2024، يعيّن ماكرون ميشال بارنييه رئيسًا للوزراء، بينما يكون حزب الجمهوريون أقلية ضعيفة بين أقليات أخرى أكبر منه. وهكذا يتخلى روتايو عن عباءة المعارض ليرتدي عباءة وزير الداخلية. وللتوفيق بين هذا التحول الجذري، فرّغ الرجل أيديولوجيته اليمينية من مضمونها، واستبدلها بخطاب مبني على الأزمة بين باريس والجزائر، يقوم أساسًا على مهاجمة الجزائر. وهكذا حقق هدفين اثنين: لم يعد يزعج رئيسه، وفي الوقت نفسه كسب تعاطف الحنينين إلى "الجزائر الفرنسية" وورثتهم، وهم كثر.
وباختصار، فإن عداءه البدائي للجزائر جعله – على غير المتوقع – شخصية سياسية بارزة في الساحة الفرنسية. والدليل: أصبح رئيسًا لحزب الجمهوريين ورُفع لرتبة وزير دولة. ومنذ ذلك الحين، اتخذ موقعه عند مدخل قصر الإليزيه بشعار وحيد: "يجب إخضاع الجزائر".
ومؤخرًا، حاول ريتايو – وهو يلوّح برمزه العدائي تجاه الجزائر – أن يجبر سيباستيان لوكورنو على الخضوع له ليصبح بمثابة نائب رئيس وزراء فعلي. لكن محاولته فشلت، وخرج من الحكومة من الباب الخلفي.
ومن الجدير بالذكر أن سيباستيان لوكورنو شغل لسنوات منصب وزير الدفاع، الوزارة التي تشرف على جهاز الاستخبارات الخارجية DGSE وخلال الأزمة الفرنسية-الجزائرية، التزم الصمت خلافًا لسياسيين فرنسيين آخرين. واليوم، يركز رئيس الحكومة على إصلاح الاقتصاد الفرنسي المتداعي. فقد حان الوقت لإنهاء سياسة التلهية: لا يمكن سداد دين عام هائل عبر إهانة الجزائر. لذا عيّن لوران نونيز وزيرًا للداخلية، وهو رجل بنى مساره في الإدارة الإقليميةوالأمن والاستخبارات، ويعرف الميدان جيدًا.
في إدارته للملف الجزائري، تخلى نونيز عن الإيديولوجيا لصالح البراغماتية. فهو يمتلك، بحكم منصبه وخبرته، ذاكرة الأجهزة الأمنية الفرنسية، ويعرف جيدا ما تدين به فرنسا للاستخبارات الجزائرية في الماضي القريب. ومنطقيا، يعمل على استعادة التعاون الأمني الفرنسي-الجزائري الذي يعد حيويا بالنسبة لفرنسا.
هل يمكن القول بأننا أمام تحول حقيقي في مقاربة باريس تجاه الجزائر؟ أم هو مجرد تعديل في الخطاب دون تغيير في الجوهر؟
ألاحظ – على الأقل من جانب وزارة الداخلية الفرنسية – وجود رغبة حقيقية في التقارب مع الجزائر عبر تعاون عملي. غير أن الوزير نونيز يركز، فقط، على حماية المصالح المتعلقة بمجال اختصاصه، دون مبالغة إعلامية أو ضجيج سياسي، ما يجعله أقل حضورا في الساحة الإعلامية. كما يبدو أنه غير مكترث باستطلاعات الرأي وحملات التواصل الجاهزة. وقد يضيع صوته وسط ضوضاء النواب الذين نجحوا في تمرير قرار غير ملزم لإدانة اتفاقيات 27 ديسمبر 1968 مع الجزائر. وحتى إن تجاوز الخطاب العدائي للجزائر، أثناء التصويت، حزب التجمع الوطني ليشمل الجمهوريين وحزب "أفقيون" التابع لإدوار فيليب، المرشح البارز لرئاسيات 2027، فإن ذلك لا يلغي حقيقة مركزية التعاون الأمني مع الجزائر لمصالح فرنسا. هذه هي الصورة الحالية. وأرفض الاعتقاد بأن أشهر ريتايو العدائية ستمر بلا أثر. الضرر وقع، ولا يمكن إصلاحه إلا بسياسة واقعية بعيدة عن الأيديولوجيات القديمة التي، للأسف، يبدو أنها بدأت تترسخ. ومن الصعب الجزم بالمستقبل، فلدينا رئيس جمهورية (فرنسا) غير متوقع وعاجز، وأحزاب قوية تتغذى على العداء للجزائر.
أشرتم في حوار سابق إلى أن "الوقت حان لمقاربة جديدة" بين الجزائر وفرنسا.ما المقصود تحديدًا بهذه المقاربة؟ وما الذي يجعل اللحظة الراهنة مناسبة لتبنيها؟
تواجه الطبقة السياسية الفرنسية والرأي العام تحديات اقتصادية ضخمة ومتعددة الأوجه: عجز في الميزانية، دين هائل، تهديدات على نظام الحماية الاجتماعية… لذا فإن الأولوية اليوم هي ترتيب أولويات الدولة، مع إسكات المشاعر "ما بعد-- الاستعمارية" باختصار، يجب العودة إلى الأساسيات.
ورغم أن بقاء الحكومة الحالية غير مضمون، فقد حان الوقت لإطفاء الحرائق السياسية المفتعلة. فبدون أي فائدة ولا أهداف واضحة، سوى الطموحات الشخصية، ألحقت باريس ضررًا بعلاقاتها مع الجزائر. وعلى وزارتي الداخلية والخارجية الآن معالجة العلاقات الثنائية باحتراف، بعيدا عن العاطفة والحسابات السياسية. هاتان الوزارتان لديهما نافذة زمنية لإعادة تهدئة العلاقات ومعالجة أكبر عدد من الملفات العالقة. لكن يبقى السؤال: هل سينجحان؟ خصوصًا وأن الجزائر، حتى الآن، لم تغلق الباب. يجب إعادة بناء شروط سياق تعاون جديد. الضرر وقع، وها أنا أكرره.
في رأيكم، إلى أي مدى ساهمت شخصية وزير الداخلية السابق برونو روتايو في تأزيم العلاقات الثنائية؟وهل كانت تصريحاته ومواقفه انعكاسًا لخيارات "الدولة العميقة" في فرنسا أم اجتهادات فردية مرتبطة بطموحاته السياسية؟
خلال توليه وزارة الداخلية، حاول برونو ريتايو(وهو غير معروف كثيرًا للعامة) بناء صورة رجل المواجهة، مستغلًا الأمواج العاتية للأزمة الفرنسية-الجزائرية. ومن خلال تغطية إعلامية مفرطة وتضليل ممنهج، صعّد التوتر مع الجزائر. وكانت قضاياه المفضلة: بوعلام صنصال، قرارات الترحيل، الهجرة غير الشرعية… وفي 9 يناير 2025، بلغ ذروته حين طرد مؤثرا جزائريا يُعرف باسم "دوالِم" خارج الأطر القانونية، لكن الجزائر أعادته فورا إلى فرنسا. ثم خرج الوزير على كل المنابر يقول: إن الجزائر أهانت فرنسا، ورفع قضية دوالِم رايةً لحشد الرأي العام. ودعا إلى رد فعل وانتقام، محاولا تحويل موجة العداء للجزائر إلى "تسونامي" دون نجاة سياسية. لقد شن حربا على الجزائر، معتقدا أن غالبية الفرنسيين والطبقة السياسية معه، بينما كان هدفه الحقيقي جرّ ماكرون إلى مواجهة مباشرة. وماكرون تركه يفعل، مقتنعا بأن ريتايو سيقع في الفخ وحده، ولو على حساب العلاقات مع الجزائر.
في فرنسا، يشير مصطلح "الدولة العميقة" إلى البيروقراطية المالية ومراكز النفوذ الاقتصادي الرافضة للتغيير. باختصار، دوافع ريتايو سياسية ضيقة. وباستهداف الجزائر، كان يستهدف في الحقيقة ماكرون، لأنه لا يملك أي تأثير على الحكومة الجزائرية.
أشرتم إلى أن فترة روتايو تميزت بتسريبات غير محسوبة وكشف لهويات بعض العملاء، مما أضر بالثقة بين الأجهزة.كيف يمكن، في رأيكم، استعادة هذه "الثقة الأمنية" بين الجزائر وباريس؟ وهل تعتقدون أن وزير الداخلية الجديد قادر على ذلك؟
فعلاً، قام ريتايو بتسريب كمّ هائل من المعلومات السرية إلى شبكات معروفة يديرها "نيو-حركيون" يكنّون كراهية تاريخية للجزائر. وبذلك حطّم قاعدة شرف في عالم الاستخبارات. وكسر هذا المحظور أدى إلى قطع الثقة. لقد ضحّى بالتعاون الأمني الثنائي لأجل مصالحه الشخصية. فهو رجل جسديًا، لكنه ليس رجل دولة. وخلال توليه الوزارة لم يتصل مرة واحدة بنظيره الجزائري، وهو أمر غير مسبوق. أما لوران نونيز فعند تعيينه اتصل فوراا بنظيره الجزائري وفق البروتوكول المعمول بها والمتعارف عليها، وهو، أكيد، يدرك أن استعادة الثقة تتطلب وقتًا وجهدًا، لكنه يسلك الطريق الصحيح: براغماتية، لا تصريحات نارية، ولا تسريبات تجاه الـ "نيو-حركيين".
العلاقات بين الأجهزة الأمنية الجزائرية والفرنسية كانت في فترات سابقة "نموذجية"، مثلما ذكرتم عند استحضار مرحلة شارل باسكوا والهادي لخديري.ما الذي جعل تلك المرحلة "مدرسة براغماتية" ناجحة؟ وما الدروس التي يمكن استعادتها اليوم؟
كان التعاون الأمني بين شارل باسكوا والهادي لخديري مثالياً، لأن كليهما كان "رجل دولة" يعمل وفق مصالح مشتركة بعيدًا عن الأيديولوجيا. وخلال العشرية السوداء، كان التعاون الأمني بين البلدين فعالًا ضد الإرهاب، بفضل المهنية والثقة. لكن نجاح الأمن الجزائري أزعج أحزابًا فرنسية اخترعت حينها مقولة "من يقتل من؟" بدعم من "نيو-حركيين".
هل ترون أن العودة إلى ما يسمى"الدبلوماسية المعاملاتية" يمكن أن تشكل فعلاً أرضية لتجاوز الخلافات الرمزية والإيديولوجية؟وكيف يمكن تطبيقها عمليًا بين بلدين مثقلين بإرث تاريخي معقد مثل الجزائر وفرنسا؟
قلت في أحد كتبي إن عبدالعزيز بوتفليقة قال عام 1974: "علاقات فرنسا والجزائر يمكن أن تكون جيدة أو سيئة، لكنها لا يمكن أن تكون عادية".هذا يعكس ثقل التاريخ وخصوصية العلاقة. ولم تُمارَس دبلوماسية تقليدية بين البلدين. ويُذكر أن ذلك قبل احتلال المغرب للصحراء الغربية، ومنذ أن دعمت فرنسا رسميًا خطة المغرب عام 2007 في يوليو 2024، وخرقت التوازن التقليدي، بدأت أزمة عميقة أعقبها "تسونامي ريتايو". لن يعود شيء كما كان. لكن استنادًا إلى نظرية "التدمير الخلاق" لشومبيتر، قد تكون هذه فرصة لإعادة هيكلة العلاقات على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل والمصالح المشتركة، مع ضرورة الاعتراف بالجرائم الاستعمارية دون تفاصيل.
تتحدث أطراف في فرنسا، سيما من اليمين واليمين المتطرف، منذ فترة عن مراجعة اتفاقية 1968 الخاصة بالهجرة والإقامة بين الجزائر وفرنسا.ما هي في رأيكم المحاور التي يجب مراجعتها؟وهل ترون أن المراجعة يجب أن تتم بشكل شامل أم جزئي؟ما هي أهم النقاط التي تحتاج إلى إعادة توازن في هذه الاتفاقية؟وهل تعتقدون أن الظروف الحالية مناسبة لتفاوض متكافئ بين الجانبين؟
من اليمين إلى أقصاه، تطالب القوى السياسية الفرنسية بإنهاء اتفاقيات 27 ديسمبر 1968، واستندوا إلى تقرير برلماني في أكتوبر 2025 يدّعي – استنادًا إلى أرقام زائفة من خبراء قريبين من اليمين المتطرف – أن الجزائريين يكلّفون فرنسا ملياري يورو في شكل إعانات اجتماعية. هذه ادعاءات بلا أساس رسمي أو علمي، لكن لا أهمية لذلك، بما أن المسألة داخلية حزبية. وقد عُدّلت الاتفاقيات ثلاث مرات: 1985، 1994 و2001. ورغم محاولات لاحقة لإعادة التفاوض، يجب تذكّر أن هذه الاتفاقيات تتضمن 12 مادة على 8 صفحات، وأن شروط الهجرة تغيرت والقوانين الأوروبية دمجت منذ ذلك الحين. ولا أرى مشكلة في مراجعتها ضمن إطار محترم وإنساني. وقد قال محامٍ مختص بقضايا الجزائريين: إن الكثير من موكليه كان سيكون وضعهم أفضل وفق القانون العام. لكن رغم أهمية الملف، فهو ليس أولوية إذا كانت النية إعادة بناء الثقة.
كيف تقيمون الموقف الفرنسي من الملفات الإقليمية التي تهم الجزائر، مثل الساحل (مالي، النيجر) وليبيا؟وهل تتوقعون أن تتغير مقاربة باريس بعد إعادة تشكيل الحكومة الجديدة؟
تسعى فرنسا، دون الإعلان عن ذلك صراحة، للانتقام من حكومتي مالي والنيجر، معتبرة أنها أنقذت مالي عبر عمليتي "سرفال" و"برخان". وفي ليبيا، استقبل ماكرون خليفة حفتر مرارًا باعتباره أساسيًا لحل الأزمة. التحدي أمام الحكومة الفرنسية الجديدة هو هشاشتها السياسية. وأي تقارب مع الجزائر يجب أن يشمل لاحقًا تنسيقًا دبلوماسيًا في المنطقة.
في ضوء المتغيرات الدولية وصعود قوى جديدة في المتوسط (إيطاليا، إسبانيا)، كيف يمكن للجزائر أن تعيد تموضعها في علاقتها بفرنسا؟
نحن أمام عولمة مجزأة وظهور "عوالم فرعية". وعلى المدى المتوسط والبعيد، ستكون غرب المتوسط منطقة استراتيجية: إسبانيا، فرنسا، إيطاليا شمالًا، والجزائر جنوبًا مع التعقيد المغربي. وقد يقود تعزيز العلاقات مع روما ومدريد إلى مزيد من الاستقرار مع باريس. فالتوازن مطلوب في الدبلوماسية.»
ما الذي يحتاجه الطرفان، برأيكم، لبناء علاقة واقعية ومستقرة على المدى الطويل؟هل هي الإرادة السياسية؟ أم تغيير ذهنية الإدارات البيروقراطية؟
على المدى الطويل، لا بد أن يبدأ بناء علاقة واقعية ودائمة عبر الاعتراف بالجرائم الاستعمارية كخطوة إغلاق للملف. الأساس المتين للعلاقة هو الاقتصاد، مع إمكانات تكامل كبيرة. وأهم استثمار هو الاستثمار في الإنسان، إذ يمكن للجالية الجزائرية في فرنسا أن تكون جسرًا بين الضفتين.»
أخيرًا، لو طُلب منكم تلخيص مستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية في جملة واحدة، ماذا تقولون؟
لوصف مستقبل العلاقات بين فرنسا والجزائر في جملة واحدة، لو كنت متشائما لقلت "ربي يستر"، لكن بما أنني أسمح لنفسي ببعض التفاؤل أو تفاؤل نسبي، فسأقول "اليقظة،ما يقول المثل الشعبي: اقرأ سورة "يس" والحجر في يدك".

التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال