الوطن

مقري.. من إرث نحناح إلى لعبة الأضواء

مع مرور الوقت، أصبح هوس مقري بالظهور الإعلامي السمة الأبرز في مسيرته.

  • 6448
  • 2:32 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

يظل عبد الرزاق مقري، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم "حمس"، نموذجا مثيرا للجدل في المشهد السياسي الجزائري، فمنذ بروز اسمه على الساحة، ارتبط خطابه بالبهرجة الإعلامية والاستعراض والمبالغة أكثر مما ارتبط بالعمل السياسي الجاد، حتى صار في نظر كثيرين إلى صورة كاريكاتورية للمعارض الذي يقتات على الضوضاء والأضواء.

منذ البداية، استغل مقري إرث مؤسس الحركة الراحل محفوظ نحناح، وتوظيفه لخدمة طموحاته الخاصة، فأقصى منافسيه وجعل الحركة أداة لتمويل مشروعه الشخصي، أكثر منها إطارا سياسيا جماعيا. ورغم شعاراته المعارضة، لم يتردد في الدخول في مساومات مع نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ما كشف عن براغماتية مفرطة، إن لم نقل تناقضا صارخا.

ومع مرور الوقت، أصبح هوس مقري بالظهور الإعلامي السمة الأبرز في مسيرته. فقد اشتهر بتصريحات مثيرة للجدل، كقوله إن حادثة "الحراڤة" المراهقين "ستبقى في التاريخ"، أو مبادرات استعراضية مثل إعلانه الإبحار نحو غزة، رغم يقينه بأن رحلته ستتوقف عند أول حاجز إسرائيلي. بالنسبة له، المهم هو الصورة والانتشار الإعلامي، ولو كان الثمن المصداقية السياسية.

ولا يتوقف الأمر في داخل الوطن، حيث قضى مقري سنوات طويلة متنقلا بين المنتديات الدولية، من ماليزيا إلى تركيا، ومن مصر إلى لبنان، سعيا وراء موقع في الصورة إلى جانب شخصيات سياسية ودينية. غير أن أكثر ما أثار الريبة هو علاقاته الوثيقة ببعض الدوائر الأمريكية. فقد اعتبره دبلوماسيون أمريكيون "مصدرا جيدا"، بل إن روبرت فورد، السفير الأمريكي السابق المتهم بلعب أدوار في تأجيج أزمات عربية، وصفه بحليف محتمل. هذه الخلفية تجعل من الصعب التوفيق بين دموع مقري على غزة وخطبه النارية ضد الغرب، وبين مشاركته في فعاليات منظمات مثل "نيد" (الوقف الوطني للديمقراطية) و"فريدوم هاوس"، المعروفة بارتباطها بالاستخبارات الأمريكية.

هذا التناقض البنيوي أصبح العلامة المسجلة لمقري. فهو قادر على التحالف مع أحزاب لائكية مثل التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (ضمن التنسيقية الوطنية للحريات والانتقال الديمقراطي) ثم الانقضاض على التيار البربري. كما أنه ينتقد أمريكا في الصباح ويشارك في حفلات سفارتها في المساء. ويندد بالأنظمة المستبدة ثم يرحب بعودة طالبان إلى السلطة.. إنها براغماتية متطرفة قد يراها البعض "ذكاء سياسيا"، لكنها في الواقع تكشف عن أزمة هوية عميقة.

واليوم، وبعد أن فقد رئاسة الحركة، لم يعد لمقري ما يقدمه سوى التصعيد الشعبوي. فقد حاول في 2023 تصوير الجزائر على أنها "صامتة وخاضعة" تجاه غزة، متجاهلا أن الجزائر تعد من أبرز الداعمين للقضية الفلسطينية على المستويين العربي والدولي، بشهادة الفلسطينيين أنفسهم. مثل هذا الخطاب لا يعكس حقيقة السياسة الخارجية للجزائر، بقدر ما يكشف حاجة صاحبه -ومن على شاكلته- إلى افتعال المعارك الإعلامية بحثا عن الأضواء المفقودة.

باختصار، مقري ليس مجرد معارض تقليدي، بل هو حالة سياسية قائمة على التناقضات. هو نتاج "ربيع عربي" فاشل، لم يجد لنفسه موقعا سوى في الضجيج والتهويل، وظل يراوح مكانه بين شعارات كبرى لا تجد ترجمة على أرض الواقع. وإذا كان بعض السياسيين أبناء الحرب الباردة، فإن مقري يمكن اعتباره ابن مرحلة الاضطرابات العربية التي أنتجت قادة يفضلون الصورة على الفعل، والكلام على البناء.

في النهاية، عبد الرزاق مقري ليس سوى سياسي عاشق للكاميرات أكثر من اهتمامه بالبرامج، ومعارض يصنع الضوضاء ليبقى حاضرا في شبكات التواصل الاجتماعي وعناوين وسائل الإعلام المفتونة به وبأمثاله. وبين دموع التماسيح المنهمرة على غزة وولعه بالصالونات الدبلوماسية الغربية، يظهر بجلاء أن الرجل يبحث عن الأضواء لا عن المواقف، وعن الصورة لا عن الحقيقة.