العلّامة محمد الهادي الحسنيّ.. تكريم لكريم

38serv

+ -

أحرص عادة أن أتناول في كتاباتي أفكارًا بسطًا وشرحًا ونقدًا، وأبتعد ما استطعت عن الكتابة عن الأشخاص؛ لخطورة الكلام على الأشخاص والحكم عليهم أو لهم، ولما يثيره الحديث عنهم من عواطف قد تكون عواصفًا، وما يصحب ذلك من غلو في الحبّ والاحترام أو البغض والنقد. بيد أنّ الأفكار كما هو مشاهد معلوم يحملها أشخاص تعيش فيهم ويعيشون لها، ومن هنا تأتي الكتابة عن المصلحين الكبار وتابعيهم بإحسان باعتبارهم ممثلين للأفكار الّتي آمنوا بها وجاهدوا في سبيلها، وهذا ما أشار إليه الأستاذ الكبير مالك بن نبي رحمه الله تعالى في قوله: ”إنّ كلّ قضية جليلة تضع بصماتها في مصير الإنسانية وتترك صداها في التاريخ، ترسم على مركب الزمن وجوها كريمة تمثلها”، [بين الرشاد والتّيه: ص 64].ومن هذه المشكاة جاءت هذه الكتابة عن شيخنا وأستاذنا محمد الهادي الحسني حفظه الله ومتّعه بالصحة والعافية الّتي آثارها التكريم الّذي بادر به بعض تلامذته، وجاءت هذه الوقفة السّريعة مع هذا التّكريم ومع الأستاذ المكرّم.فللأسف لقد اعتدنا أن لا نعرف لرجالنا قيمتهم ولا لعلمائنا قدرهم حتّى يحكم القدر، ويستأثر الله تعالى بهم، وصارت هذه الحال الأسيفة مثلًا دارجًا يضرب: (كي كان عايش مشتاق تمرة، وكي مات علقولوا عرجون!!)، فالحمد لله أن أنتفض محبّو الشّيخ وخالفوا هذا العرف المنكر، واهتمّوا لتكريمه وهو حيٌّ بيننا، نفرح به ونسر به، ونفرحه ونسرّه. عسى ولعلّ ننتفض كليّا على هذه الحال، ونهتم بتكريم من يستحقّ التّكريم من الأبناء البررة لهذا الشّعب العظيم، ونحن ندعو لهم بطول الحياة بدل أن نكرمهم ونحن ندعو لهم بالرّحمة والمغفرة!، {ولا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}.وكم في الجزائر من قامات قدّمت الكثير في صمت في مجالات جادة عدة، بعيدًا عن أضواء الشّهرة الخادعة، وهم بلا ريب أولى بالتّكريم ممّن يُكرّم من لاعبين ومغنيين وفنانين!. كلّ ما قدّموه لهو وعبث ولغو ولعب!، استهلك ميزانيات كبيرة من أموال الشعب، ولم ينتج أيّ ثروة صغيرة أو كبيرة!، {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا}.الحقيقة أنّ ما يقال عن الشّيخ الحسني كثير، فالرّجل متعدّد المواهب، وفير المناقب، مشارك في مختلف الجوانب، غير أنّي أردت الوقوف مع نقطة أراها أهم ما يشترط في صاحب القلم والكلمة، وهي الصّدق وإقرار الوقائع وإن كانت لغير فائدته، أي يشهد على نفسه بالحقّ ولا يزيّن حاله بمقاله، بل يذكر ما له وما عليه، ولا يرى في ذلك غضاضة أو منقصة. وقد قرأنا لكثيرين ممّن ترجموا لأنفسهم ودوّنوا مذكراتهم، فوجدنا أغلبهم يتذكر الجوانب المشرقة من حياته وينسى أخطاءه وسقطاته، ووجدنا القلّة القليلة الّتي تتذكّر وتذكر حياتها كما هي بنقائصها وكمالاتها، ومحاسنها وسيّئاتها. وهكذا هي حياة الإنسان لا تخلو من أخطأ ونقص وضعف، ولكن نقص الإنسان وضعفه يدفعه لتغطية نقصه وضعفه!.وشيخنا الحسنيّ حفظه الله بلا شكّ من الصّنف الصّادق العادل، الّذي يكفيه الصّدق عن التّزيين، ويرضيه الحقّ عن التّدليس، وكتاباته شاهدة على ذلك. وسأكتفي بذكر موقفين ذكرهما شيخنا في بعض مقالاته تبيّن كيف تكون الأمانة والصّدق ومسؤولية الكلمة.الموقف الأوّل: يذكر كيف علّمه العلامة الكبير عبد الرّحمن الجيلالي نوّر الله ضريحه أدبًا من آداب الطعام، ولم يرَ في ذكر ذلك غضاضة، بل رأى ذلك من محاسن الذكريات الّتي تنفع النّاس، فقال زاده الله توفيقًا وفضلًا: ”لي مع الشّيخ الجليل عبد الرّحمن الجيلالي ذكريات لطيفة، منها أنّني كنت جالسًا إلى يمينه، نتناول طعام الغداء في بلدة أولاد ابْراهَم (بوسعادة)، وفرغت من الأكل قبله، فقلت: الحمد لله. فقال لي الشيخ: إذا كنت في ملأ وفرغت من الأكل قبلهم فلا تجهر بالحمدلة؛ لأنّك ستُحرج من معك إن كان ما تزال به رغبة إلى الطعام، وتُظْهِرُه في مظهر الشَّره النَّهِم”. [ذو القرن الشّيخ عبد الرّحمن الجيلالي، الشروق اليومي: 23/04/2008].الموقف الثّاني: يذكر زلّة وقع فيها في ريعان الشّباب، عبرة وذكرى للشّباب حتّى لا يسلكوا ذلك الطريق الوعر، فقال زاده الله توفيقًا وفضلًا: ”لقد جرت لي حادثة مع الأستاذ عبد الحفيظ بدري، فقد فرض عليّ -مرّة- أن أقرأ كتاب (آلام فرتر) للكاتب الألماني غوته، الّذي عَرَّبَه الأديب البليغ أحمد حسن الزيات، الّذي كان الأستاذ معجبًا به كثيرًا وحبّبه إلينا. قرأتُ الصفحات الأولى من الكتاب فلم استسغه، فأعرضت عن قراءته، فلمّا انقضى الأسبوع، وأرجعنا ما استعرناه من كتب، فسألني الأستاذ على مرأى ومسمع من التلاميذ؛ هل قرأت الكتاب؟ فقلت: نعم، وكنت كاذبًا. شمّ الأستاذ رائحة الكذب في جوابي، فقال مستدرجًا لي: لو قرأته لاستوقفتك كلمةٌ غريبةٌ فيه، ولرجعت إلى تفسيرها في الهامش.. قلتُ في ”غرور” لم تستوقفْني أية كلمة، ولم يستشكل عليّ أيّ لفظ.. حَدَجَنِي الأستاذ بنظرة ترمي بشرر، وقال: أنت كاذب، والله إنّك لم تقرأ الكتاب. وكان صادقًا. أمّا الكلمة الّتي قصدها الأستاذ فهي ”الأَهْرَاء”، ومفردها ”هُرْيٌ”، وهو مخزن الحبوب. وكان جزاء كذبي أن غضب عليّ الأستاذ، ولم يكلمني أيّامًا معدودات، حتّى استغفرت لذنبي، واستسمحت أستاذي..”، [أستاذي عبد الحفيظ البدري، الشّروق اليوميّ: 15/04/2009]. وهكذا يكون الصّدق، وهكذا تكون النّفوس الكبيرة، وهكذا يكون الكريم في نفسه، وفيما يكتب.وإنّي أسأل الله لشيخنا الكريم أن يطول عمره في الصّالحات، في صحة وعافية. وأن يدخله الله تعالى في ظلال قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات