+ -

يقول الحقّ سبحانه: {لِلهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله، يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.ها قد أكرم الله أمّتنا، أكرم شيبنا وشبابنا، صغيرنا وكبيرنا، ذكرنا وأنثانا، بأن مَنَّ علينا في أن نعود إلى بيوته سبحانه، فيا له من فتح عظيم، ونصر مبين، ويا لها من فرحة، أكرم وأنعم بها من فرحة، فرحة هي نعيم القلب وبهجته وسروره. الفرح بطاعة الله لذّة تقع في القلب لا تدانيها لذّة، فمواسم العبادة كقدوم رمضان، وموسم الحجّ، والعيدين، وختم القرآن، وفتح المساجد لاستقبال جموع المصلّين كلّ ذلك طاعات، ما تحقّقت إلّا بتوفيق منه سبحانه.من هدي المصطفى عليه الصّلاة والسّلام أنّه كان يفرح برجوع النّاس عن غيّهم، وإسرافهم على أنفسهم، وبإسلامهم ونجاتهم من النّار، ففي الصّحيح: يقول خادم رسول الله أنس بن مالك رضي الله عنه: كان غلام يهودي يخدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فمرض، فأتاه صلّى الله عليه وسلّم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: ”أسْلِم”، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم فأسْلَمَ، فخرج صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: ”الحمد لله الّذي أنقذه من النّار”، هكذا فرح عليه الصّلاة والسّلام بإسلام الرجل، وخرج مبتهجًا مسرورًا، وهو يردّد: ”الحمد لله الّذي أنقذه بي من النّار”.كما كان عليه الصّلاة والسّلام يفرح إذا حصل لبعض أصحابه خير، كما في حادثة توبة الله على كعب بن مالك المتخلّف عن غزوة تبوك، فلمّا تاب الله عليه فرح حتّى كان يبرق وجه، ففي الصحيح يقول كعب: فلمّا سلّمتُ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبرق وجهه من السّرور، وكان رسول الله إذا سُرَّ استنار وجهه حتّى كأنّه قطعة قمر، وكنّا نعرف ذلك منه، ثمّ قال: ”أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك”.وفي يوم بدر يقف المقداد بن الأسود كالأسد مخاطبًا المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكن سنقاتل عن يمينك وعن يسارك، ومن بين يديك ومن خلفك، فأشرق وجه رسول الله، وفرح بسماع الكلام الجميل الّذي يدلّ على الصّدق وقوّة الإيمان. كما كان يفرح صلّى الله عليه وسلّم بمبادرة الصحب الكرام رضوان الله عليهم حينما يدعوهم إلى طاعة الله، يدعوهم للتصدُّق، فترى الواحد فيهم يأتي بصرة كادت كفّه تعجز عنها، بل قد عجزت، ففي الصّحيح يقول المنذر بن جرير: كنّا عند رسول الله في صدر النّهار، فجاءه قوم حُفاة عُراة مجتابي النمار أو العباء (ملابسهم مهترئة لشدّة فقرهم)، متقلدي السيوف، عامتهم من مُضر، بل كلّهم من مضر، فتمعر (تغيّر) وجه رسول الله لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثمّ خرج فخطب في النّاس وأمرهم بالصّدقة، فتصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرّه، من صاع تمره، فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفّه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثمّ تتابع النّاس فرأيتُ وجه رسول الله يتهلّل كأنّه مَذْهَبة.أمّا الصحابي الجليل، راوية الإسلام أبو هريرة رضي الله عنه، فحينما أسلمت أمّه، لم تسعه الدّنيا فرحًا، ولندَعْه رضي الله عنه يحدّثنا عن موقفه ذلك، قال: كنتُ أدعو أمّي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيتُه صلّى الله عليه وسلّم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إنّي كنتُ أدعو أمّي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادْعُ الله أن يهديَ أمَّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”اللّهمّ اهْدِ أمَّ أبي هريرة”، فخرجتُ مستبشرًا بدعوة نبي الله، فلمّا صرتُ إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعَتْ أمّي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلَتْ ولبست درعها، وعجّلت عن خمارها، ففتحت الباب، فقالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتيتُه وأنا أبكي من الفرح، قال: قلتُ: يا رسول الله أبْشِر قد استجاب الله دعوتَك وهدى أمَّ أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه.واعْلَم أيّها الفاضل أنّ فرحك بفتح مسجد لتؤدّي طاعاتك فيه، لا ينبغي أن تعتريه الفوضى، وعدم الانضباط، فإيّاك وهيشات الأسواق، فالفرح بالطّاعة لا بدّ أن يكسوه التّواضع، فها هو عليه الصّلاة والسّلام يدخل مكة فاتحًا، ومع ذلك فإنّه دخلها متواضعًا مردّدًا سورة الفتح، خافضًا رأسه حتّى إن ذقنه لتكاد تلمس راحلته. والله وليّ التّوفيق.إمام مسجد عمر بن الخطّاببن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات