اسلاميات

إحياء المولد النبوي بين التهيب والتسيب

في كل سنة من مولده صلى الله عليه وسلم، تبعث المعارك الجدلية لهذه المناسبة النورانية، بين محرّم لها ومجيز لها، بين مبدّع لمحييها وبين مرحّب بها.

  • 296
  • 2:01 دقيقة
الدكتور بلخير طاهري الإدريسي
الدكتور بلخير طاهري الإدريسي

في كل سنة من مولده صلى الله عليه وسلم، تبعث المعارك الجدلية لهذه المناسبة النورانية، بين محرّم لها ومجيز لها، بين مبدّع لمحييها وبين مرحّب بها. وهي مسألة تضرب في أعماق التاريخ الإسلامي، بين مؤيّد ومعارض، وكل يحشد أدلته لنصرة مذهبه، وفي خضم هذا الصراع تقع المزايدات والمبالغات.

وعند الطرفين، تخرج أحيانا عن سقف الاختلاف المشروع، ليتعدّى ذلك إلى معتقدات الأفراد بين التفسيق والتبديع، ويصل بالبعض إلى إلحاقه بالشرك. وأنا على يقين أنه لا يمكنني أن أحسم هذه المسألة الخلافية التي تمتد إلى قرون، وقد بحثها فطاحلة علماء المسلمين قديما وحديثا، ليصلوا إلى بقاء ما كان على ما كان، سوى محاولة حشد كل طرف أدلته غير المألوفة واستظهار أدلة أخرى على غير ما هو معتاد، لينتهي الطرفان إلى كونها استدلالات اجتهادية يزعم أصحابها أنها مما تطمئن له النفس وتركن له العقول الباصرة والفطرة السليمة.

ويمكن إرجاء اختلاف العلماء في المسألة للأسباب، والتي يبقى تحريرها يحتاج إلى تجرد واستقراء زائد على المعهود، ويمكن حصرها في هذه العشارية التأصيلية: هل هي من مسائل العقائد أم من مسائل العبادات، أم من مسائل العادات؟ هل تدخل في باب البدع أم في باب المصالح المرسلة، أم في باب المباحات؟ هل هي مسألة خلافية أم وقع فيها إجماع، أم قول جمهور فقهاء؟ هل الاحتفال هو من قبيل الوسائل أم المقاصد؟ هل كل ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الصحب الكرام هو بدعة؟ هل الترك فعل، والفرق بينه وبين السكوت والعفو؟ هل عدم النقل هو نقل للعدم؟ فرق بين إحياء المولد وما يقع في المولد! وعلاقة ذلك بسد الذرائع وفتح الذرائع، أمانة النقل، وحرية التعليق، وفق ما قرره علماء الاستنباط في قواعدهم المحررة والمقررة على مذهب أهل السنة والجماعة.
ختاما، إن رفع الخلاف في مثل هذه المسائل متعسر، وتحكيم المقاصد لتضييق الخلاف متيسر، وحسن الظن بالمخالف من أخلاق المتبصر، ونشدان القطع في كل المسائل متعذر، والطعن في اجتهاد أهل الحق أسلوب متكرر، ومتتبع عورات العلماء سلوك كل متعثر، والإعراض والقفز على اجتهادات السابقين صفة كل متكبر.

فحُسن الظن مع سلامة القصد قد تخرج صاحبها من دائرة الحرج إلى دائرة الفرج، خاصة ممن لهم سبق وسهم في الإسلام، وأثر ظاهر بين الأنام. ولو سكت مَن لا يعلم لسقط الخلاف، ومَن لم يطلع على اختلاف الفقهاء، لم يشم رائحة الفقه.
فاجتهد وانتقد ثم اعتقد، ولكن إياك والإقصاء واحتكار الصواب في مسائل الاجتهاد. واعلم أن كلام الشارع يحتج به، وكلام العالم يحتج له، ففرق بين يحتج به ويحتج له. وإياك وإنزال أقوال العلماء منزلة النصوص، فكل يؤخذ من كلامه ويُرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين