حاورتها: مسعودة بوطلعة
تتحدث الشاعرة والروائية ربيعة جلطي التي تملك في رصيدها حوالي ثلاثين مؤلفا في الشعر والرواية والقصة والفكر والترجمة، عن روايتها الأخيرة "السرجم.. ياجوج وماجوج وسفر الحفر"، الصادرة مؤخرا عن دار العين، وتقول في حوار لـ "الخبر" إن عملها "يطرح الأسئلة الوجودية القلقة الكامنة في دواخل كلٍّ منّا في هذا العصر الذي يعيش حالة توتر غير مسبقة"، وتلاحق الرواية "ذلك الانخطافَ الذي نعيشه جميعا، بين تقدّم العقل الآلي وتراجع الضمير الإنساني، والتوجّس من عاطفة "الحبّ"، في مفارقةٍ تبدو معها الحضارة وكأنها تكاد تبلغ ذروتها الرقمية، لكنها تفقد ورويدًا رويدًا بوصلتها الأخلاقية"، مشيرة إلى أن في مجمل رواياتها لا يغيب البعد الديني، سواء لدى شخصيات طبيعية أم خيالية وغرائبية، "إدراكا مني أن البعد الديني رافق الإنسان منذ نشأته الأولى، ليس كقيد خارجي بل كصوت باطني يمنح وجوده معنى ويحيل خوفه من الفناء إلى توق نحو المطلق".
ما هي التيمة الأساسية لروايتك الجديدة "السَّرْجَم.. يأجوج ومأجوج وسفر الحفر"؟
سيكتشف القارئ بعد قراءتها أن من خلال شخصياتها وأحداثها المتسارعة والمتتابعة، ومن خلال نسيج عوالمها الغرائبية والواقعية معًا، فإن رواية "السَّرْجَم" تطرح الأسئلة الوجودية القلقة الكامنة في دواخل كلٍّ منّا في هذا العصر الذي يعيش حالة توتر غير مسبقة، وفي عالمٍ تحكمه أقطابٌ متنافرةٌ ومتجاذبة، بين اكتشافاتٍ علميةٍ وتكنولوجيا تتسارع إلى حدّ الدوخة، تُحوِّل الإنسان إلى كائنٍ رقميٍّ تتحكّم في وعيه، ومن بين قناعاتٍ متوارثةٍ من أزمنةٍ بعيدةٍ تعود كلما تأزّمت الأوضاع، وبين حروبٍ تستعيد لغاتِ القبيلة والغريزة الحيوانية البدائية، إلا أنها تستعمل أدواتِ إبادةٍ دقيقةٍ بلا دماءٍ ولا مواجهاتٍ عسكرية.
تلاحق رواية "السَّرْجَم.. ياجوج وماجوج وسفر الحفر" ذلك الانخطافَ الذي نعيشه جميعا، بين تقدّم العقل الآلي وتراجع الضمير الإنساني، والتوجّس من عاطفة "الحبّ"، في مفارقةٍ تبدو معها الحضارة وكأنها تكاد تبلغ ذروتها الرقمية، لكنها تفقد ورويدًا رويدًا بوصلتها الأخلاقية، ثم إن جنون "الحفر" في باطن الأرض بحثًا عن كنوز الكوكب يبدو جليا في رمزيته وواقعيته، فالإنسان لم يكتفِ بنهب سطح الكوكب، بل راح ينهش أحشاءه. تُثقب الجبال، وتُنزَف المحيطات، وتُستخرج الأحشاء المعدنية كما تُستخرج الاعترافات تحت التعذيب.
فهل أصبح الكوكبُ مرآةً لجنون البشر الجماعي؟ وهل كلما ازدادت الآلة ذكاءً ابتعد الإنسان عن جوهر إنسانيته، وعمّت الشراسةُ والوحشية؟ والسؤال المركزي: ماذا لو أن الحفر وصل مداه الخطير، فتُخرج الأرض أثقالها، وتلقي إلى سطحها بقوم يأجوج ومأجوج، تخاطب البشر: أسأتم المقام على ترابي فهل تظنون أنكم مازلتم تستحقونه، ثم هل يأجوج ومأجوج الذين حاصرتم في جيوبي، أكثر شراسةً منكم، أليس من حقهم بعد مئات الآلاف من السنين التمتع بالشمس؟
يحيلنا عنوان النص إلى البعد الديني فيه، إلى أي مدى توظف ربيعة جلطي البعد الديني في نصها؟
في مجمل رواياتي لا يغيب هذا البعد سواء لدى شخصيات طبيعية أم خيالية وغرائبية، إدراكا مني أن البعد الديني رافق الإنسان منذ نشأته الأولى، ليس كقيد خارجي بل كصوت باطني يمنح وجوده معنى ويحيل خوفه من الفناء إلى توق نحو المطلق، رُوي من خلال رسوم الكهوف وطقوس الدفن ونقوش المعابد، ثم تجلّى في الملاحم الكبرى التي صاغت تصوّره للعالم والآلهة والمصير، من ملحمة جلجامش السومرية إلى الإلياذة والأوديسة الإغريقيتين، مرورًا بالرامايانا والمهابهارتا الهنديتين، والشاهنامة الفارسية، والأسطورة المصرية عن إيزيس وأوزوريس، وأسطورة إينانا وتموز، شواهد فنية على بحث الإنسان عن معنى الخلق والموت والخلود، منذ البدايات جسد الفن والدين توأمين في مسيرة الوعي البشري ودهشته أمام الوجود وسعيه الدائم نحو المطلق.
الخلفية الفلسفية لرواية "السَّرْجَم" في رصدها لمفارقات إنسان العصر، تطلبت استدعاء لرموز عقائدية ومنها قوم يأجوج ومأجوج، التي وردت في الكتب الدينية السماوية الثلاثة وغيرها من المعتقدات بصيغ مختلفة، تمثّل صورةً إنذارية عن انفلات القوة من دون ضابطٍ أخلاقي، عن الجشع والظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. العامل الديني في رواية "السَّرْجَم" لا يأتي ليؤسّس خطابًا عقائديًا، بل ليعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والعالم، بين الطين والسماء، بين الرغبة والضمير.
إنه يمدّ الأحداث بعمقٍ تأمليّ يجعلها تتجاوز سطح الوقائع إلى أسئلة الأصل والمآل، فيصبح الصراع بين شخصيات "السرجم" انعكاسًا لصراعٍ داخليٍّ بين النور والظلمة، بين الغواية والنجاة، بين الحب والكراهية، وتُذكّر عبر سيرورة أحداثها ومصائر شخصياتها أن التقنية والعقل وحدهما لا يكفيان لصون الإنسان من نفسه، وأن القيمة لا تقاس بما نملك، بل بما نحافظ عليه من نقاءٍ في دواخلنا.
تحتلُّ المرأة مكانة مركزيَّة في خطاب "السَّرْجَم"، كيف تم توظيف قضايا المرأة في النص؟
على رأي النقاد والدارسين لأعمالي الروائية فإن الشخصيةٍ النسائية في سردي تبدو وكأنها عالمٌ رمزيٌّ قائمٌ بذاته، لا يشبه غيره ولا يتكرّر ولا يستقر على حال فهو في تطور دلالي مطّرد، أعتقد أن الشخصيات النسائية في رواية "السرجم" أيضا، تمثّل حالاتٍ إنسانية وروحية متمايزة تتقاطع فيها الأسطورة والتاريخ واليوميّ ولا تكتفي بالأدوار الوظيفية التقليدية مثلا "لالة درة" و"زهرة" و"نوارة العود" و"ماريا" و"مريم" وغيرهن.. قد يكنّ نساءً من لحمٍ ودمٍ، ولكن الأهم أنهن شخصيات يشكلن عوالمَ دلالية تنبض بفكرةٍ وذاكرةٍ وصوتٍ خاصّ. لكلّ واحدةٍ لغتها الداخلية، وموقعها من الأسئلة الكبرى التي يطرحها النص، مثل الزمن والذاكرة والحلم والاستبداد والتكنولوجيا والمستقبل والغياب والعصيان والعشق كقوّة تحرّر، والسخرية كأداة نقد، والخوف والقلق والأمل.
وأحرص على أن تتحرك الشخصيات النسائية لا كزينة سردية، بل كـأعمدةٍ رمزية تحمل البناء الروائي، بحيث لا يمكن استبدال إحداهنّ بأخرى دون أن يختلّ النسيج أو تتغيّر نغمة الحكاية. هو ذاك حرصي، أن تتحوّل كل امرأةٍ في الرواية إلى رمزٍ مستقلٍّ له نَفَسُه الوجوديّ.
الرواية تمثل شخصيات من ثلاثة أجيال متعاقبة (حسب تقديم الدار)، ما هو الخطاب الذي يحمله النص لكل جيل؟
لكلّ جيلٍ في رواية "السَّرْجَم" ذاكرته وهواجسه، تتشكّل من تجاربه التاريخية ومن الأسئلة التي طرحتها عليه الحياة. لكنّ بعض الشخصيات، على اختلاف ماضيها ومنابع ثقافتها، تلتقي عند مفترق التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وأخبار الاختراعات العلمية المذهلة المثيرة للدهشة والخوف: شخصية "لالة درة"، وشخصية "أجوج" وشخصية "زهرة"...
تلتقي الأجيال الأربعة - فالأقدم تمثله شخصية "شمس الندرومي" والد "لالة درة" ومعلمها - حول أسئلة عصرهم ومستجداته، فلم يعرف التاريخ من قبل اختراعات تملك مثل هذه القدرة على إعادة تعريف الإنسان ذاته وبيئته وأدواته وتصبح مرآة تُظهر للإنسان مدى توهّجه العقلي، لكنها في الوقت نفسه تعكس هشاشته الأخلاقية. شخصية لالة درة في "السرجم" كانت تدرك في السر أن المسألة الجوهرية ليست فيما يمكن للآلة أن تفعله، بل فيما سيفعله الإنسان بها.
كانت تلمح إلى أنها قوة، قد تفتح أبوابًا غير مسبوقة لارتقاء الوعي البشري، كما فتح اكتشاف النار يومًا أبواب الحضارة، إن هي وجهت في خدمة العدالة والمعرفة والسلام، أما إذا وُضعت في يد الغرور والجشع، فإنها ستتحول إلى نارٍ أخرى، تُعيد البشرية إلى عهدها المظلم، وقد تمسي أداة لفنائها وذلك ما تؤكده سيرورة الأحداث.
تستثمر الرواية في الحكاية الشعبية، هل يجعل ذلك من الرواية غير واقعية، أو إلى أي حد تطغى العناصر السحرية والخارقة على النص؟
أتصور أن لكلّ أُمّةٍ مخزونها الثقافيّ الشعبيّ الذي يحمل ملامح ذاكرتها الجماعية، ويجسّد رؤيتها للعالم عبر ما نسجته من أساطيرٍ وحكاياتٍ وخرافاتٍ وأغانٍ وطقوس، وأعتقد أن داخل هذا التراث الشعبيّ تتجاور الحكمةُ مع الخيال، والعقلُ مع الأسطورة، حيث تتجلّى الحكايةُ والخرافةُ بوصفهما شكلين من أشكال التعبير العميق عن القلق الإنسانيّ والبحث عن المعنى فتحفظ التجربةَ وتورث القيم. إنها محاولة الإنسان الأولى لتفسير المجهول، وتشييد نظام رمزيّ يُخفّف من غموض الوجود. ربما، نحن جميعا فتحنا أعيننا وخيالنا على أصوات جداتنا الهامسة كل ليلة، تغرف من الذاكرة الشعبية، وهن يقصصن علينا وتحدثنا عن كائناتٍ خارقة تمنح الحكاية عمقها الكوني وامتدادها الماورائي.
حين تستعير الرواية من الخرافة لغتها وأجواءها، فإنها لا تفعل ذلك لتُدهش القارئ أو لتؤثث الفضاء بالعجائبي، بل لتفتح الباب أمام اللاوعي الجمعي الذي تختزن فيه الأمم ذاكرتها الأولى. الخرافة بين مفاصل النصّ السردي تُعيد بناء العلاقة بين الإنسان والمجهول، وتجعل الواقعيّ يهتزّ تحت وطأة الممكن والمتخيَّل، في رأيي الحكاية الشعبية تمنح الشخصيات بعدا أسطوريا يُخرِجها من ضيق اليومي إلى رحابة الرمزي. وهكذا، تصبح الخرافة في الرواية أداة كشفٍ لا تزويق، تكشف ما يُخفيه الواقع من خوفٍ ورغبةٍ وغريزةٍ وإيمان، وتعيد إلى الحكاية جوهرها الأول، ذلك الحنين الإنساني القديم إلى تفسير العالم بالحلم والرمز، لا بالمنطق وحده. وهنا يكمن جوهر جماليات السرد.
الاستثمار في الخرافة والنصوص الدينية، يحيل إلى نص مكتوب بلغة منتقاة، كيف تم التعامل مع اللغة في النص؟
حين أوظّف في نصوصي السردية الموروث الخرافي أو الديني، أعمل على أن تصير اللغة أكثر من وسيلةٍ للحكي، بل تتحوّل إلى وسيطٍ تأويليّ بين عالمٍ مقدّسٍ ذي سلطة رمزية ثابتة، وعالمٍ فنيّ متحوّل يسعى إلى إعادة بناء المعنى. في تعاملي مع الحكاية الشعبية أو النص الديني عادة لا أنقل النصّ الأصلي، بل أعيد توليده داخل نسيج لغويّ جديد يوازن بين جلال المرجع وحرية الإبداع. وأحرص على انتقاء مفردات اللغة بعنايةٍ لتظل في منطقة التوتر بين لغة الوحي التي تستمد قوتها من الإيقاع والقداسة، ولغة الفنّ التي تشتغل على الانزياح والصورة والتناصّ.
بحيث أطمح إلى أن تتحوّل اللغة في الرواية إلى إستراتيجية فكرية وجمالية، فلا تكرر النصوص القديمة، بل تُعيد تأويلها وتُفكّك بلاغتها الأصلية وتعيد تشفيرها داخل بنية سردية معاصرة، بحيث تتوازن سلطة المعنى الموروث مع حرية المعنى المبتكَر. والجميل في اعتقادي أن تنبثق من هذا التفاعل لغةٌ رمزيةٌ مشحونة، تُعيد إحياء الذاكرة الجمعية دون أن تقع في الوعظ، وتفتح الخيال على أفقٍ كونيّ تتقاطع فيه الحقيقة والأسطورة.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال