الوطن

بعد سنوات من الغموض.. نزع الأغلال من أيدي المسيرين

تهدف تعديلات قانون الإجراءات الجزائية، حسب وزير العدل، إلى خلق مناخ آمن ومسؤول داخل الإدارات العمومية، يسمح للمسيرين بأداء مهامهم بثقة وكفاءة.

  • 12796
  • 3:36 دقيقة
الصورة : ح.م
الصورة : ح.م

رسم قانون الإجراءات الجزائية الجديد معالم واضحة لحماية المسيرين، مع ضمان مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية، وذلك بعد سنوات من الغموض القانوني الذي شاب التمييز بين الخطأ الإداري والجريمة.

وقد شدد وزير العدل حافظ الأختام، لطفي بوجمعة، أول أمس بمناسبة اجتماعه مع النواب العامين ورؤساء المجالس، على جاهزية الوزارة لتطبيق هذا القانون، لاسيما ما يتعلق بحماية المسؤول المحلي واعتماد آلية إرجاء المتابعة الجزائية في حق الشخص المعنوي. وأكد أن تحديث العمل القضائي يشكل تحديا مستمرا يستدعي بذل المزيد من الجهود، مع التركيز على جودة المعالجة وتحسين نوعية الخدمات العمومية المقدمة للمواطن.

وفي افتتاح السنة القضائية الماضية، دعا رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، عبد المجيد تبون، إلى رفع التجريم عن أعمال التسيير حماية للمسيرين. وقد تجسدت هذه الدعوة في إصدار قانون الإجراءات الجزائية في أوت الماضي، الذي مثّل نقطة تحول حقيقية في التعامل مع المتابعات القضائية ضد المسيرين العموميين. فقد اشترط القانون تقديم شكوى رسمية من الهيئات الاجتماعية للشركات العامة للشروع في أي إجراء قانوني، ما يشكل درعا قانونيا في وجه الاتهامات المجهولة أو حملات التشويه.

وتنص المادة 08 من القانون على ضرورة تقديم شكوى مسبقة من الهيئات الاجتماعية لتحريك الدعوى العمومية ضد مسيري المؤسسات العمومية الاقتصادية التي تملك الدولة كامل أو جزءا من رأسمالها، في حال قضايا تتعلق بسرقة أو تبديد المال العام. كما تلزم المادة نفسها بفرض عقوبات على أعضاء الهيئات الاجتماعية الذين يمتنعون عن الإبلاغ عن الوقائع ذات الطابع الجنائي. ويعكس هذا الإجراء ـ حسب مختصين ـ فهما واقعيا لطبيعة الإدارة العمومية في الجزائر، حيث كان غياب مثل هذه الضمانات يثني المسؤولين عن اتخاذ قرارات جريئة خشية المتابعة القضائية. ومع ذلك، لم يُغفل القانون جانب مكافحة الفساد، إذ ألزم الهيئات الاجتماعية بالإبلاغ عن الأفعال ذات الطابع الإجرامي، مع فرض عقوبات على من يتستر أو يمتنع عن الإبلاغ.

أما المادة 55، فقد كرست ضرورة استشارة السلطة الوصية المختصة قبل تحريك الدعوى العمومية ضد المسؤولين المحليين، خاصة في الأفعال التي قد لا ترتبط مباشرة بأعمال التسيير، مع تحديد أجل لا يتجاوز ثلاثين يوما لتقديم الرأي المعلل. وحرصت المادة على تعريف المسؤولين المحليين بشكل دقيق لتفادي التوسع في التأويل، كما جعلت من هذه الاستشارة إجراء إلزاميا لا يمكن تجاوزه، ما يفرض التزاما صارما باحترام الآليات القانونية قبل مباشرة أي متابعة.

وتهدف هذه التعديلات، حسب وزير العدل، إلى خلق مناخ آمن ومسؤول داخل الإدارات العمومية، يسمح للمسيرين بأداء مهامهم بثقة وكفاءة، دون خشية من تدخلات قضائية غير مبررة، وفي الوقت ذاته تضمن حماية المال العام ومحاسبة المتجاوزين. وتسعى هذه التعديلات كذلك إلى تمكين السلطات الوصية من ممارسة الرقابة الإدارية، مع التمييز بين أخطاء التسيير التي لا تُعد جرائم وبين الأفعال التي تستوجب المتابعة القضائية.

وقد أكد رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في عدة مناسبات، أهمية ترسيخ حقوق العاملين في القطاع العام وتوفير الضمانات القانونية الكفيلة بحمايتهم من ملاحقات جائرة، خاصة تلك المبنية على شكاوى مجهولة أو غير موثقة. ويهدف هذا الإطار القانوني إلى إصلاح الإدارة العمومية وتحسين مناخ الاستثمار، خدمة للاقتصاد الوطني.

في السنوات الأخيرة، شهدت الجزائر تفشي قضايا الفساد داخل مؤسسات الدولة، ما دفعها إلى اعتماد آليات قانونية جديدة لمكافحة الظاهرة، بالتوازي مع الوفاء بالتزاماتها الدولية. ومنذ سنة 2020، اتخذت السلطات العليا خطوات ملموسة لرفع التجريم عن أعمال التسيير، عبر تعليمتين رئاسيتين. الأولى، رقم 05/2020، ركّزت على كيفية التعامل مع الرسائل المجهولة التي كانت تُستخدم في كثير من الأحيان كمبرر للملاحقة القضائية، ما خلق حالة من الشلل داخل الإدارات العمومية ودفع بالمسيرين إلى التقيد بالحد الأدنى من المهام، خوفًا من تحمل مسؤولية قد تنجر عن قرارات لا تحمل نية إجرامية. وأدى ذلك إلى تأجيل ملفات مهمة، بعضها ذو طابع استراتيجي أو استعجالي، ما ألحق أضرارا جسيمة بسير المؤسسات.

وقد شددت هذه التعليمة على ضرورة التمييز بين أخطاء التسيير الناتجة عن سوء تقدير أو عدم كفاءة، التي لا تستدعي متابعة قضائية، وبين الأفعال التي تهدف إلى تحقيق مكاسب غير مشروعة، كما أكدت أن الرسائل المجهولة لا تشكل دليلا كافيا لتحريك المتابعة القضائية.

أما التعليمة الثانية، رقم 02/2021، فقد خُصصت لحماية المسؤولين المحليين، حيث اشترطت عدم القيام بأي تحريات أو ملاحقات ضدهم دون الرجوع إلى وزير الداخلية والجماعات المحلية. وتأتي هذه الخطوة في إطار إعادة الثقة للمسيرين وتشجيعهم على المبادرة الاقتصادية، مع التأكيد على ضرورة التمييز بين الأخطاء الإدارية غير المقصودة وبين الأفعال التي تنطوي على تلاعب متعمد لخدمة مصالح شخصية أو مصالح أطراف أخرى.

وتعكس هذه السياسة الجزائية الجديدة إرادة السلطات العليا في تعزيز الحماية القانونية للمسيرين والحد من المتابعات القضائية غير المبررة التي تضر بروح المبادرة والاستثمار، كما تظهر كوسيلة لضبط المتابعات القضائية بما ينسجم مع الدستور والاتفاقيات الدولية، لتحقيق توازن دقيق بين مكافحة الفساد وحماية المسيرين من التجريم المفرط.