ثقافة

"الصدق قبل السرعة، التحليل قبل الإثارة، العمق قبل التهويل"

"الخبر"… قصة جريدة تشبه وطنًا.

  • 181
  • 3:43 دقيقة
الصورة: "الخبر"
الصورة: "الخبر"

خمسة وثلاثون عامًا مضت، وأنا أعبر، في أقل من عمر الجريدة بقليل، ممرّات "الخبر" كما لو كنت أعبر دهاليز الذاكرة الوطنية نفسها. 35 عامًا من الحبر والعرق، من الحروف التي سالت لتروي قصة الجزائر في لحظاتها وايامها الصعبة، وحلمها في لحظاتها الباسمة.

كلما أشرقت شمس ذكرى التأسيس، يعود إليّ ذاك الإحساس الأول: أن الصحافة التي هي مهنة، هي أيضا، قدر. وأن "الخبر" لم تكن يومًا مجرّد جريدة، بل ضمير جماعي نشأ في زمن العتمة ليضيء ما استطاع من دروب الحقيقة.

وُلدت "الخبر" في زمن كان الوطن، كما المواطن، يبحث فيه عن صوته وسط ضجيج المرحلة، عن كلمته وسط دوّامة التحولات. كانت بداية التسعينيات زمنًا شديد الاضطراب والألم، لكن أيضًا زمنًا مليئًا بالأسئلة الكبرى حول الحرية، والديمقراطية، ودور الإعلام في بناء الدولة الحديثة.

في تلك اللحظة، قررت مجموعة من الصحفيين الشباب أن يغامروا، أن يضعوا حجر الأساس لصرح إعلامي مختلف: حرّ، مستقل، ومهني.

لم تكن الإمكانيات متوفّرة، لكن كانت النية صافية والعزيمة صلبة. فُتحت أبواب "الخبر" بأبسط الوسائل، لكن بأكبر الإيمان بأن الجزائر تستحق إعلامًا يليق بها، إعلامًا لا يتلوّن بالسياسة، ولا يركع للسلطة، ولا يتنازل عن المصداقية مهما كان الثمن.

في البدايات، عندما التحقت بـ"الخبر"، كان الحلم أكبر من المكاتب، وحين كانت المقالة تُكتب أحيانًا على أوراق مهترئة، ثم تُسلَّم بحذر إلى مطابع "لا تنام". كنا نعمل ونحن نعلم أن كل كلمة قد تُقرأ كبيان، وأن كل عنوان قد يُفهم كصرخة.لكننا في "الخبر" اخترنا الصدق، والمصداقية، حتى اختارتنا المهنة. ومنذ ذلك اليوم، لم نعد نملك حق التراجع.

حين أستعيد ملامح الزملاء الذين مرّوا من هنا، أرى وجوهًا محفورة في ذاكرة المهنة، بعضها ما زال بيننا، وبعضها غاب جسدًا وبقي أثرًا.

أستحضر أصواتهم في قاعات التحرير، النقاشات الحامية حول العناوين، المساحات، والأولويات. كنا نتجادل، لا لنتفوّق، بل لنقترب أكثر من المعنى.تعلّمنا أن الصحافة ليست نقل الخبر فقط، بل صناعة وعي عام، وأن "الخبر" لا تكتب عن الناس، بل معهم، ومن أجلهم.

كانت السنوات الصعبة تمرّ كالعواصف: سنوات الإرهاب، سنوات الأزمات السياسية، سنوات الأمل المعلّق. لكن الجريدة صمدت، لم تنكسر، لأن روحها كانت أقوى من أي ظرف.

كان القراء وفاءها الأكبر ورأسمالها الذي لا يزول. أولئك الذين ينتظرونها صباح كل يوم، يجدون فيها مرآة الوطن: بكل ما فيه من قلق، وأمل، وكرامة.

واليوم، ونحن نحتفل بذكرى التأسيس، لا يسعنا إلا أن نرفع القبعة لكل من حمل الشعار بشرف، ولكل من ترك بصمة في هذا البيت الإعلامي الذي علّمنا معنى الالتزام والنزاهة.

التحوّل الرقمي… معركة الحضور والهوية

لكن العالم تغيّر، بل وتغيّر كثيرا، على الأقل بالنسبة لي أنا المصنّف مع "الكهول".لم تعد الجريدة الورقية هي وحدها صاحبة الكلمة الأولى. جاءت الثورة الرقمية، فغيّرت وجه الإعلام، وغيّرت عادات القراءة، وغيّرت حتى مفهوم الخبر ذاته.هنا وُلد التحدي الجديد: كيف نحافظ على روح "الخبر" ونحن ننتقل من الورق إلى الشاشة، ومن المطبعة إلى عالم الخوارزميات؟

الجواب لم يكن، وليس،سهلاً..أن تكون "الخبر" في زمن الذكاء الاصطناعي، يعني أن تظل وفيا لمبدئك الأول: الصدق قبل السرعة، التحليل قبل الإثارة، العمق قبل التهويل.أن تكون "رقميا" لا يعني أن تتخلى عن القيمة التحريرية، بل أن تستثمر التكنولوجيا لخدمة المعنى، لا العكس.

ولهذا، لم تكن "الخبر" يوماً مجرّد موقع إلكتروني جديد، بل كانت استمرارًا لتاريخ طويل من المهنية، لكن بأدوات جديدة وأفق أوسع.

لقد خضنا هذه المعركة وما زلنا نخوضها. نعيد تعريف دور الصحفي، نُدرّب الأجيال الجديدة على التفكير قبل النشر، على التحقّق قبل العنوان، وعلى أن المصداقية هي رأس المال الوحيد في زمن تغرق فيه الأخبار المزيّفة والسطحية.

الصحافة الجزائرية اليوم أمام مفترق طرق، مسؤولية أعمق، بين ضغط السوق وإغراءات الإعلام السريع، بين ضرورة البقاء في الصدارة، والحفاظ على الجوهر: خدمة الحقيقة.

في هذا المشهد، تبقى "الخبر" مطالبة بأن تكون، كما كانت دائما، صوت العقل في زمن التشتت، ومنبر التحليل في زمن العواطف السريعة. الرهان ليس في المنافسة على عدد النقرات، بل في ثقة ووفاء الجمهور عبر المصداقية، والاحترام، والاحتراف.

أمام "الخبر"، اليوم، مهمة كبرى: مرافقة التحولات الاجتماعية والسياسية في الجزائر، بعين ناقدة، وبقلب وطني.

الإعلام لا يغيّر الواقع وحده، لكنه يوجّه الوعي نحوه، يرسم ملامح النقاش العام، ويمنح المواطن أدوات الفهم.وإذا كانت الديمقراطية تبنى بالكلمة، فإن "الخبر" كانت وما تزال أحد أعمدتها الصلبة.

بعد ثلاثة عقود من الوجد، فإن "الخبر" ليست مؤسسة فقط، بل ذاكرة وطنية حيّة.في أرشيفها، تجد الجزائر كما هي: بدموعها وابتسامتها، بانتكاساتها وقيامتها.وفي مكاتبها، تسمع صدى جيل كامل آمن بأن الحقيقة ممكنة، وأن الكلمة الشريفة يمكن أن تصمد أمام كل الرياح.

اليوم، ونحن نطفئ شمعة أخرى من عمر الجريدة، لا نحتفل بالماضي فحسب، بل نحتفل بقدرة هذا البيت الإعلامي الكبير على التجدد، وبإصراره على أن يبقى مدرسة للصحفيين، ومنارة للمهنة، وجسرًا بين القارئ والحقيقة.

خاتمة القول..قد تتغيّر الوسائط، وقد تتبدّل الأجيال، لكن روح "الخبر" تبقى واحدة:روحُ صحفيين عشقوا المهنة حتى العظم، وآمنوا بأن خدمة القارئ هي أسمى أشكال الوطنية.

لمعرفة المزيد حول هذه المواضيع