اقتصاد

سيفي غريب.. تكنوقراط لتحقيق الإقلاع الاقتصادي

مهمة غريب وحكومته ثقيلة.

  • 2119
  • 4:19 دقيقة
الوزير الأول، سيفي غريب، الصورة: حمزة كالي "الخبر"
الوزير الأول، سيفي غريب، الصورة: حمزة كالي "الخبر"

بين طموحات 2027 ورهانات المستقبل، تمضي الجزائر نحو إقلاع اقتصادي قد يعيد رسم مكانتها إقليميا ودوليا.

مهمة سيفي غريب وحكومته ثقيلة، لكنها تقوم على قناعة راسخة بأن الجزائر تمتلك كل المؤهلات لتكون قوة اقتصادية صاعدة. وفي هذا المسار، سيسجل في التاريخ أسماء من أسهموا في تحقيق هذا التحول، تماما كما سيكتب في الذاكرة أن الجزائر، تحت قيادة تبون، عرفت كيف تجعل من إمكاناتها قوة فعلية في خدمة شعبها وقارتها.

جاء تعيين سيفي غريب، وزيرا أول، ليشكل محطة بارزة في مسار الجزائر السياسي والاقتصادي، وهو اختيار لم يأت من فراغ، بل يعكس رؤية الرئيس عبد المجيد تبون الذي أبان خلال السنوات الست الماضية عن عزيمة واضحة في إدخال الجزائر إلى مصاف الدول الصاعدة وبناء نموذج اقتصادي واجتماعي متماسك يستند إلى الإمكانات الوطنية ويستجيب لتطلعات المجتمع.

ومنذ وصوله إلى سدة الحكم عام 2019، حرص الرئيس تبون على وضع الاقتصاد في صدارة أولوياته، ومع بداية عهدته الثانية، أعلن بوضوح أن أفق 2027 سيكون منعطفا تاريخيا لترسيخ التحول الاقتصادي، حيث لم يعد الوقت للتشخيص بقدر ما هو وقت التنفيذ. ومن هذا المنطلق جاء خيار سيفي غريب، التكنوقراط المعروف بصرامته وفعاليته، لقيادة الجهاز التنفيذي. إنه اختيار يعكس توجّه الدولة نحو الاعتماد على الكفاءات الميدانية القادرة على تسريع وتيرة الإصلاحات بعيدا عن الحسابات الضيقة أو التوازنات التقليدية.

أدرك الرئيس تبون أن الاستقرار الاجتماعي شرط أساسي لأي إصلاح اقتصادي عميق، لذلك أقر جملة من السياسات الاجتماعية التي لاقت صدى إيجابيا واسعا، أبرزها إعفاء الأجور التي تقلّ عن 30 ألف دينار من الضرائب ورفع معاشات التقاعد ودعم السكن الاجتماعي، والحفاظ على الدعم الموجه للمواد الأساسية. هذه الإجراءات ليست مجرد قرارات ظرفية، بل تمثل ركيزة في استراتيجية أوسع هدفها الحفاظ على التماسك الوطني وضمان العدالة الاجتماعية، مع إحداث التحول الاقتصادي المنشود.

وضمن هذه الرؤية، برزت قضية تمكين المرأة كأحد أعمدة الإصلاح، فقد صادقت الجزائر مؤخرا على اتفاقية "سيداو" ورفعت تحفظاتها الجوهرية، وذلك انسجاما مع دستور 2020 الذي عزز حقوق النساء وأقرّ مشاركتهن الفاعلة في التنمية.

هذا التوجه لم يكن رمزيا، بل تمت ترجمته عمليا من خلال تعيين نساء على رأس حقائب وزارية استراتيجية، ومن خلال صعود الكفاءات النسوية في المؤسسات الاقتصادية والسياسية. فالمرأة الجزائرية، التي كانت دوما في الصف الأول خلال المراحل العصيبة من تاريخ البلاد، أصبحت اليوم تقود شركات كبرى وتنافس أشقائها الرجال بكفاءتها.

ومنذ 2019 بدأت ملامح الانتقال تظهر في قطاعات عدة. في الصناعة الصيدلانية، تغطي الجزائر 72 بالمائة من حاجيات السوق المحلية، ما جعلها تتبوأ موقع الريادة إفريقيا.

وفي الفلاحة قفز الإنتاج بفضل الاستثمارات في الهضاب العليا والجنوب، حيث تحولت الأراضي الشاسعة إلى مزارع نموذجية بإمكانها ضمان الأمن الغذائي للجزائريين والمساهمة في تزويد الأسواق الإفريقية.

أما قطاع الطاقة الذي يشكل العمود الفقري للاقتصاد الوطني، فيعرف تحولات نوعية عبر تعزيز قيمة الغاز الطبيعي وتطوير الصناعات البتروكيمياوية، وتوسيع استثمارات الطاقات المتجددة. وقد أثمرت هذه الجهود فائضا تجاريا تجاوز 10 مليارات دولار عام 2024، ما يعكس ديناميكية اقتصادية جديدة.

ويولي الرئيس تبون أهمية قصوى للاندماج القاري عبر البنى التحتية الكبرى، فالجزائر بحكم موقعها الجغرافي تمثل جسرا طبيعيا بين أوروبا المتوسطية وإفريقيا جنوب الصحراء. ويترجم هذا الطموح في مشروعين رئيسيين هما الطريق العابر للصحراء الممتد على 4800 كلم، والذي يربط الجزائر بلاغوس في نيجيريا، وهو مكتمل بنسبة 80 بالمائة، مشكّلا شريانا اقتصاديا يربط شمال القارة بجنوبها، ويمثل تجسيدا لرغبة الجزائر في أن تكون ممرا لوجيستيا استراتيجيا، خاصة في إطار منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية.

أما المشروع الثاني، فهو شبكة السكة الحديدية شمال-جنوب وشرق-غرب، التي ستربط الموانئ المتوسطية بالجنوب الصحراوي، مدمجة بذلك الجنوب في النسيج الاقتصادي الوطني، فيما يهدف الخط شرق-غرب، أحد أطول الشبكات في إفريقيا، إلى تعزيز التجارة البينية المغاربية.

هذان المشروعان ليسا مجرد طرق وسكك، بل هما دعامة لمكانة الجزائر كمركز قاري قادر على استقطاب التدفقات التجارية الإفريقية وتوجيهها نحو أوروبا.

ولم تتوقف الجزائر الجديدة عند حدود البنية التحتية، بل ساندت هذا التوجه بدبلوماسية اقتصادية نشطة، محققة نجاحا غير مسبوق في احتضان الطبعة الرابعة من معرض التجارة البينية الإفريقية، الذي أسفر عن توقيع عقود واتفاقيات استثمارية بمليارات الدولارات. هذا النجاح لم يكن مجرد حدث اقتصادي، بل شكّل اعترافا بدور متجدد للجزائر كقوة محركة في القارة. كما أعلنت الجزائر عن إنشاء صندوق إفريقي لدعم المؤسسات الناشئة، يهدف إلى تمويل الابتكار وتشجيع ريادة الأعمال وتعزيز التعاون جنوب-جنوب.

أما دوليا، فإن الجزائر تنتهج سياسة متوازنة ترتكز على شراكات استراتيجية مع قوى صاعدة وتقليدية على حد سواء، معززة تعاونها مع الصين في مشاريع البنية التحتية والطاقات المتجددة ومقوية علاقاتها مع تركيا وإيطاليا في مجالات الصناعة والطاقة وتدير شراكات استراتيجية مع روسيا في إطار الأمن والطاقة. هذا التنويع في الشراكات تمنح الجزائر قوة تفاوضية وتؤهلها لتكون فاعلا محوريا بين المتوسط وإفريقيا، بين أوروبا والجنوب.

رغم كل هذه المكتسبات، فإن التحديات أمام سيفي غريب وحكومته تظل جسيمة، والمطلوب هو تسريع وتيرة التنويع الاقتصادي لتقليص الاعتماد على المحروقات وتوفير فرص عمل للشباب ومواصلة تحسين مناخ الاستثمار وضمان أن تكون الإصلاحات الاقتصادية متناغمة مع العدالة الاجتماعية، لأن المجتمع الجزائري الذي يتطور يوما بعد يوم يتطلع إلى تحسين جودة الحياة وإلى رؤية الإصلاحات تنعكس مباشرة على معيشته اليومية.

خلاصة الكلام، تقف الجزائر اليوم عند مفترق طرق تاريخي، فالموارد الطبيعية والإمكانات البشرية والموقع الجغرافي وشساعة المساحة (بلادنا هي عاشر دولة في العالم من حيث المساحة)، كلها عوامل تتيح لها أن تصبح قوة اقتصادية صاعدة في إفريقيا والعالم العربي. لكن النجاح يتطلب صرامة في التنفيذ والمتابعة واستمرارية في السياسات. ويمثل تعيين سيفي غريب ذلك الرهان على الكفاءة والجدية، لكنه أيضا رسالة إلى الداخل والخارج بأن الجزائر مقبلة على مرحلة جديدة عنوانها الفعل بدل إهدار الوقت في الكلام والإنجاز بدل الاستغراق في التشخيص.