العالم

الأبعاد الخفية للتدخل الإماراتي.. من اليمن إلى الساحل الإفريقي

ملء الفراغ.. أم خلق الفوضى؟

  • 3433
  • 4:03 دقيقة
محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، الصورة: ح.م.
محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، الصورة: ح.م.

تشهد السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة تحولا، خلال العقد الأخير، حيث انتقلت من دور الدولة التجارية المحافظة المرتبطة تقليدياً بالتحالف الغربي - الخليجي، إلى طموح يمارس دوراً مباشراً ومؤثراً سلبيا في عدة ساحات صراع.

 هذا التحول، الذي يصفه منتقدوه بـ"العدائي" أو "الميكيافيلي"، يتبنى مقاربة مركبة تجمع بين الأدوات العسكرية المباشرة، والدبلوماسية الاقتصادية، ودعم الفصائل بالوكالة، مما يضعها في قلب تناقضات التحالفات الإقليمية ويجعلها موضع انتقادات متزايدة من جيرانها وشركائها التقليديين.

 يمكن تحليل النهج الإماراتي وتفسير السياسة الإماراتية كسعي لملء الفراغ الناجم عن التراجع النسبي للنفوذ المصري والعراقي التقليديين، وتراجع المركز السعودي في بعض الملفات، والانسحاب الأمريكي التدريجي من التركيز العسكري المباشر في الشرق الأوسط، مع توجه الإمارات لبناء "نطاق نفوذ" يحمي مصالحها ويوسع هامشها الاستراتيجي، تتبنى الإمارات نظرية ميكيافيلية تظهر في المرونة غير الإيديولوجية للسياسة الإماراتية، حيث تتحالف مع أطراف متناقضة (مثل دعم التيارات الإسلامية السلفية في بعض الساحات مع محاربتها في ساحات أخرى، والتعاون مع الكيان الصهيوني بينما تدعم فصائل معادية لها في اليمن) خدمةً لمصالح ضيقة وقصيرة المدى تعتمد مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، كما تبرز الليبرالية الجديدة التي تتجلى في الاستخدام المكثف للأدوات الاقتصادية كوسيلة إغراء (الاستثمارات، المساعدات، عقود إعادة الإعمار) كرافعة للقوة الناعمة وللحصول على موطئ قدم وولاء النخب المحلية في الدول المستهدفة، كما في السودان ودول الساحل الإفريقي.

 وتتعدد ساحات الصراع التي تبرز سياسات إماراتية مثيرة للجدل.. ففي اليمن تحولت الإمارات من الحليف إلى المنافس، فقد تحولت من شريك أساسي فيما عرف بـ"التحالف العربي لدعم الشرعية" إلى "فاعل" مستقل ذي أجندة متقاطعة مع المصالح السعودية واليمنية الرسمية، وشكّل تدخلها عبر دعم "المجلس الانتقالي الجنوبي" وتسليحه، وتسليم جزيرة سقطرى، ومحاولة السيطرة على الموانئ الإستراتيجية مثل المكلا، عاملا أدى إلى تصدع التحالف ودفع الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً لإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك معها، وهذا التصرف يهدد الوحدة اليمنية ويفتح الباب أمام صراع وكالة جديد على حدود السعودية الجنوبية، وعليه، فقد دعت المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، إلى الاستجابة لطلب الجمهورية اليمنية بخروج قواتها العسكرية من اليمن، خلال 24 ساعة، وإيقاف أي دعم عسكري أو مالي لأي طرف كان داخل البلاد. أما في السودان، فإن الأمر يرتبط بتمويل الفوضى والاتهامات بالتواطؤ في الإبادة، فقد أصبحت الإمارات طرفاً رئيسياً في الصراع السوداني عبر دعمها الواسع لقوات "الدعم السريع".

تقارير استخباراتية دولية نقلت فحواها وسائل إعلام عالمية كـ"وول ستريت جورنال" و"الغارديان" تتهمها بإرسال أسلحة متطورة ومسيّرات لقوات الدعم السريع، بل وتحويل أسلحة غربية (بريطانية) إلى تلك الميليشيات المتورطة في جرائم حرب محتملة في دارفور.

هذا الدعم يطيل أمد الحرب ويعرقل المسارات السياسية، ما يخدم إستراتيجية الإمارات في إبقاء الدولة السودانية ضعيفة ومنشغلة عن منافسة نفوذها الإقليمي.

وفي سياق أزمة ليبيا ودول الساحل، فقد عكس سياسات أبو ظبي مبدأ النفوذ عبر الوكالة وتفكيك الاستقرار. ففي في ليبيا، تدعم الإمارات بشكل غير مباشر شبكات من القوى المحلية (سياسيين، تنظيمات سلفية، رجال أعمال) لضمان استمرار تأثيرها بعد تراجع دور اللواء خليفة حفتر. أما في الساحل الإفريقي (مالي، النيجر، بوركينا فاسو)، فتسارع إلى عقد شراكات أمنية واقتصادية مع الأنظمة العسكرية الانتقالية، في محاولة لاستغلال الفراغ الناجم عن انسحاب القوى الغربية ومواجهة النفوذ التقليدي للجزائر.

ويشير مراقبون إلى تنسيق ضمني مع المغرب في هذا الملف، ما يضفي عليه بعداً جيوسياسياً أوسع يهدف إلى إعادة رسم تحالفات المنطقة.

التواطؤ مع كيان الإبادة

أما في القرن الإفريقي، فيتجلى التعاون مع الكيان الصهيوني، عبر هندسة جديدة للخريطة، حيث يظهر التعاون الإماراتي مع الكيان في مشاريع إعادة تشكيل النفوذ في القرن الإفريقي، وقد جاء اعتراف الكيان بـ"أرض الصومال" (صومالي لاند)، الذي قيل إن للإمارات دوراً في محادثاته، يتقاطع مع الدعم الإماراتي للمجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن. هذا المشروع الثنائي يهدف إلى السيطرة على ضفتي مضيق باب المندب الحيوي، وخلق وقائع جديدة تهدد الوحدة الترابية للصومال وتحيط بالمصالح المصرية والسعودية.

 وتولد سياسات الإمارات مخاطر إستراتيجية كبرى، من حيث تآكل الشرعية والعلاقات، حيث أدت هذه السياسات إلى توتر غير مسبوق مع السعودية، الشريك الخليجي والتاريخي الأهم، وخلقت حالة من العداء مع الحكومة اليمنية، وتعريض نفسها لعقوبات دولية محتملة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في السودان، لاسيما مع إيداع الخرطوم شكوى لدى محكمة العدل الدولية في مارس 2025، على خلفية "ارتكاب وتمكين كل هذه الأفعال من خلال الدعم المباشر المقدم لميليشيا قوات الدعم السريع المتمردة ومجموعات الميليشيات ذات الصلة من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة".

 يضاف إلى ذلك تصدير الإمارات عدم الاستقرار عبر سياسة دعم الفصائل والميليشيات في دول هشة تزيد من تعقيد الصراعات وتعيق بناء الدولة، ما يخلق بيئة خصبة للتطرف والجريمة المنظمة على المدى الطويل، إلى جانب الاعتماد على تحالفات هشة، حيث يعتمد النفوذ الإماراتي على تحالفات مع فصائل مسلحة غير نظامية وأنظمة عسكرية غير مستقرة، وهي علاقات تتسم بعدم الولاء وقد تنقلب ضد المصالح الإماراتية ذاتها عند أول منعطف.

 باختصار، بينما تقدم أبوظبي نفسها كقوة عقلانية واستثمارية، فإن سياستها التوسعية القائمة على "القوة الذكية" بامتداداتها العسكرية والوكيلة تخلق توتراً إقليمياً عميقاً.

 نجاحها الاقتصادي والدبلوماسي في بعض الملفات، يخفي على المدى المتوسط مخاطر التورط في صراعات لا نهاية لها، وتقويض الاستقرار الإقليمي الذي تدّعي السعي إليه، وتحويلها من دولة محايدة إلى طرف في معظم النزاعات، مع ما يحمله ذلك من تكاليف سياسية وأمنية مستقبلية يصعب تقديرها.