العالم

اللعبة الكبرى: مشاريع الهيمنة وصراع البقاء في غزة

يمثل المشهد الحالي، بما فيه من مفاوضات حول القوة الدولية ومجلس السلام وهيكل الإعمار، مختبرا حيا لمعادلة القوة والنفوذ في الشرق الأوسط ما بعد الحرب على غزة.

  • 808
  • 3:52 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

تتحرك غزة في مساحة بين وقف إطلاق النار الفعلي و"اليوم التالي" للحرب، وسط صراع جيوسياسي مركب يهدف إلى صياغة الواقع النهائي للقطاع. وتتمركز المعضلة الأساسية في ملفين شديدي الحساسية يختزلان جوهر الصراع، مصير سلاح المقاومة الفلسطينية وطبيعة "الخط الأصفر" ووظيفته الاستراتيجية وانسحاب الكيان من داخل القطاع.

لا تُفهم هذه الملفات بمعزل عن سياقها الأوسع، بل كتجسيد حي لصراع ومشاريع متعارضة، المشروع الوطني الفلسطيني القائم على الحق في المقاومة والتحرر، مقابل المشروع الصهيوني المدعوم أمريكيا الهادف إلى فرض نظام أمني وإقليمي جديد يضمن "إنهاء القضية الفلسطينية" بشروط أحادية.

ويمثل المشهد الحالي، بما فيه من مفاوضات حول القوة الدولية ومجلس السلام وهيكل الإعمار، مختبرا حيا لمعادلة القوة والنفوذ في الشرق الأوسط ما بعد الحرب على غزة.

ويصر الطرف الصهيوني على أن جوهر الأمن يكمن في تفكيك القدرة العسكرية للخصم، بشرط "نزع سلاح المقاومة" كأولوية ومقدمة لأي ترتيبات لاحقة. هذه الرؤية تجسد فلسفة أمنية تعتبر القوة المادية والتفوق العسكري المطلق الضمانة الوحيدة للبقاء وتتعامل مع القوة الفلسطينية المسلحة كتهديد وجودي يتجاوز كونه تهديدا أمنيا عملياتيا ليكون تحديا لشرعية الوجود والسيادة "الصهيونية" من حيث المبدأ.

وفي المقابل، تتبنى الفصائل الفلسطينية رؤية بنائية دفاعية، فالسلاح ليس مجرد أداة عسكرية، بل رمز مركزي للهوية والمقاومة والوكالة السياسية وأداة الردع الوحيدة في مواجهة مشروع تصفية القضية. ولأن قبول أي صيغة لنزع هذا السلاح، خاصة تحت ضغط خارجي وفي إطار ترتيبات أمنية تخدم الطرف الآخر الصهيوني حصريا، يعني قبولا بسلخ الذات عن جوهر المقاومة وحق الدفاع المشروع، لذا فإن العرض الفلسطيني الحالي – المتمثل في "تجميد السلاح" أو "وضع السلاح" تحت إشراف وطني دون "نزعه" ضمن هدنة طويلة – هو محاولة ذكية لاستيعاب الضغوط الدولية مع الحفاظ على الجوهر الرمزي والقدرة الردعية، في إطار استراتيجية حفظ الذات والصمود. وهذا يعكس فهما عميقا للدور البنائي للسلاح كحام للهوية وضامن للتفاوض وليس كأداة حرب فحسب.

أما على المستوى الجيوسياسي، يتجاوز "الخط الأصفر" كونه ترتيبا مؤقتا لوقف إطلاق النار ليتحول إلى أداة متعددة الوظائف في يد الكيان، فضلا عن دعم الميليشيات المسلحة المناوئة للمقاومة في إطار خوصصة الحرب وإضعاف المقاومة، وهي أولا كأداة لتأسيس أمر واقع جغرافي، فسيطرة الجيش الصهيوني على ما يزيد عن 54% من مساحة غزة تخلق واقعا تقسيميا جديدا، وعكس تصريح رئيس الأركان الصهيوني إيال زمير بأنه "حدود دفاعية جديدة" النية لتحويله من خط انسحاب إلى حدود دائمة بأمر واقع، ما يقلص الكيان الجغرافي الفلسطيني المستقبلي بشكل جذري ويمهد لتغييرات ديمغرافية طويلة الأمد. ثانيا، كأداة ضغط سياسي وتفاوضية، حيث يتحول الخط إلى رهان مركزي في لعبة التفاوض. يمكن للكيان ربط انسحابه منه بتنازلات في ملفات أخرى مثل مصير سلاح المقاومة أو شكل وصلاحيات القوة الدولية، أو استخدام توسعاته التدريجية كوسيلة لإفشال الانتقال إلى المرحلة الثانية إذا لم تلب شروطه، وثالثا كآلية لإعادة هندسة الأمن الداخلي لغزة، عن طريق خلق منطقة عازلة واسعة داخل القطاع، على غرار ما تم في جنوب لبنان وفي سوريا. ويعيد الكيان رسم خريطة الحركة والتنقل والسكن الفلسطيني وتقطيع أوصال الجغرافيا الداخلية، ما يُضعف أي قدرة على التماسك المجتمعي أو التنظيم العسكري المستقل في المستقبل، أي تطبيق عملي لإستراتيجية "التفتيت المكاني" لإدارة السيطرة على الأرض والسكان وتحويل الجغرافيا إلى أداة قسر وسيطرة.

تتقاطع في هذا المشهد استراتيجيات الفاعلين الرئيسيين، فالإستراتيجية الأمريكية تسعى لفرض "نظام إقليمي مُدار"، حيث تهدف واشنطن عبر "مجلس السلام" والقوة الدولية إلى احتواء الصراع وإدارته وليس حله جذريا و إلى تحويل ملف غزة إلى مشروع إعمار وإدارة دولية، مع فتح الباب أمام شركات أمريكية مقرّبة للحزب الجمهوري للاستفادة من عقود إعادة الإعمار التي قد تصل قيمتها إلى عشرات المليارات، وبالتالي يُخرج الملف من إطار الصراع الوطني التحرري ويضعه في إطار "إدارة الأزمات وإعادة الإعمار"، وهو نموذج يحول القضية السياسية إلى مشروع تقني وإنساني، حيث تتنافس شركات أمريكية للفوز بعقود إعادة الإعمار في غزة بعد عامين من الحرب على القطاع، التي خلفت دمارا واسعا طال كافة البنى التحتية.

أما الإستراتيجية الصهيونية، فتميل إلى اتباع نهج "التأخير والمماطلة" رهانا على فشل الخطة الدولية، بالتمسك بشرط نزع السلاح المسبق غير القابل للتفاوض من وجهة نظرها وتوسيع "الخط الأصفر" على الأرض لكسب الكيان الوقت لترسيخ الأمر الواقع الجغرافي وانتظار تفكك التوافق الدولي وتآكل الحاضنة الشعبية في غزة تحت وطأة الدمار والإفقار، ما قد يدفع نحو "حلول" أكثر قسوة لاحقا كالتهجير الطوعي أو القسري أو البقاء في حالة من التقسيم الدائم تحت هيمنتها الأمنية.

وتدرك المقاومة صعوبة موقفها بعد حرب مدمرة وحصار خانق ودمار هائل للبنية التحتية، لكنها تناور عبر محاور بعرض الهدنة الطويلة كبادرة لتخفيف الضغط الدولي والصهيوني، وإحالة ملف السلاح للحوار الوطني الفلسطيني الشامل كمحاولة لتوزيع المسؤولية وكسب غطاء سياسي جماعي، والانفتاح المشروط على فكرة القوة الدولية والمجلس التنفيذي، لكن بشروط تمنع الهيمنة الكاملة، كرفض شخصيات مثيرة للجدل مثل توني بلير واشتراط دور فاعل لدول تعتبر صديقة. والجوهر هنا هو إستراتيجية "الصمود والاختراق"، التي تهدف إلى البقاء كفاعل سياسي وأمني لا يمكن تجاوزه والعبور من مرحلة الحرب التدميرية إلى مرحلة جديدة من دون التفريط بالثوابت، في انتظار تحولات إقليمية أو دولية قد تعيد ترجيح كفة الميزان.