من بوسعه أن يكون ضد السلام؟ لا أحد بالطبع من أصحاب النيات الحسنة. فالمساعي التي يبذلها بعض القادة الأمريكيين، وعلى رأسهم دونالد ترامب، لعقد اتفاقات سلام في بؤر التوتر حول العالم، قد تعتبر في ظاهرها مبادرات تستحق الإشادة، وربما حتى التكريم، غير أن السلام لا يعالج بخفة أو بمنطق المقايضة السياسية.
في قضية الصحراء الغربية، يبرز اليوم صراع بين منطقين لا بين دولتين كما يريد البعض تصويره: منطق القوة من جهة، ومنطق الشرعية من جهة أخرى.
من حيث ميزان القوة، لا شك أن الكفة تميل إلى واشنطن التي تفرض إيقاعها على عدد من الملفات الدولية، من القوقاز إلى الشرق الأوسط، (في الصراعات بين أذربيجان وأرمينيا، وإيران وإسرائيل، والكونغو الديمقراطية ورواندا، وبين كمبوديا وتايلاندا، وبين الهند وباكستان)، ومن القرن الإفريقي إلى البحر المتوسط (في الصراع بين مصر وإثيوبيا، وروسيا وأوكرانيا).
إذ تتعامل الإدارة الأمريكية مع النزاعات بمنهجية واحدة تقوم على إعلان مواعيد محددة واتخاذ قرارات مفروضة، واعتماد سردية جاهزة، وتحرك على أساس خريطة طريق مختزلة، وكأنها صفقات عقارية عابرة، لا قضايا مصير الشعوب.
غير أن المنطق الثاني، وهو منطق الديناميكية الشرعية، فإن يظل صحراويا خالصا.. حيث أن الجمهورية الصحراوية قائمة بشعبها، وتاريخها، وجغرافيتها، وحقها المعترف به دوليا، وعلاقاتها المتجذرة مع القوى التحررية في العالم.
أما مشروع "الحكم الذاتي الموسع" الذي تسعى واشنطن إلى فرضه كحل نهائي، فليس سوى محاولة لتثبيت احتلال بأدوات سياسية ناعمة، لا تغيّر من جوهر القضية ولا من الحق الثابت لشعب الصحراء في تقرير مصيره.
من زاوية أخرى، تقف الجزائر بثبات على المبدأ الذي لم تحِد عنه منذ عقود ألا وهو رفض أي تسوية لا تمر عبر استفتاء حر ونزيه.
وفي هذا السياق، أفادت مصادر دبلوماسية في نيويورك، بأن الجزائر لن تصوّت على مشروع قرار مجلس الأمن الذي يدعم "سيادة المغرب على الصحراء الغربية"، مؤكدة تمسكها بخيار الاستفتاء باعتباره السبيل الوحيد لتسوية النزاع بشكل نهائي وعادل.
ويتأكد للعالم أجمع، أن بعض القوى العظمى التي اجتمعت وأسّست منظمة الأمم المتحدة نصرة للسلام وإحقاقا لحق الشعوب في تقرير مصيرها (!)، هي اليوم تضرب عرض الحائط المبادئ والميثاق الذي أُسسَ عليه هذا الصرح الأممي. وبإجراءاتها وتناغم مواقفها، تؤكد (هذه الدول المصنفة بالعظمى) لأجيال الحاضر والمستقبل، أن القوة هي الحكم لا المبادئ، وأن السلام يبنى أحيانا على انفراد القوي بالضعيف، كما يحدث في الغابة حين يستأسد القوي على الضعيف.
وينبع هنا قرار التعجيل بإنهاء النزاع وفق منطق القوة — قبل أن تبلغ شمعة الاستقلال الصحراوية نصف قرنها في فبراير المقبل، تاريخ إعلان قيام الدولة الصحراوية —، كحركة إنقاذية يراها البعض وسيلة لانتشال الطرف المغربي المحتل من أزماته الداخلية، خاصة مع تزايد الاحتقان الاجتماعي وارتفاع مطالب الشارع الشاب بالعيش الكريم ومكافحة الفساد ووقف التطبيع.. وفي ظل هذه الضغوطات، يلجأ القصر العلوي إلى المقايضة بكل ما لديه ظانا أن دعم القوى الكبرى سيطيل عمر حكمه.
لكن هذه الرهانات غالبا ما تصطدم بالواقع. فقد انتهجت الولايات المتحدة منطق الصفقات في إنهاء صراعات عدة، لكنها لم تنجح، ولا شك أنها ستفشل أيضا في الساقية الحمراء ووادي الذهب، حيث ستصطدم بإرادة صلبة للشعب الذي يستحيل اجتثاث جذوره من أعماق أرضه.
ويرى متابعون أن الموقف الأمريكي والبريطاني والفرنسي، غير الحيادي والملتف على قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، يسعى إلى إطالة عمر النزاع لا حله، عبر سياسة التحكم في التوازن التي تضمن استمرار النفوذ، بما لا يهدد المصالح الغربية في تأمين الطاقة ومكافحة الإرهاب.
وفي ظل هذا المشهد، تبقى بعض العواصم الغربية حبيسة حساباتها الجيوسياسية، فيما يفترض أن يمر الحل العادل والدائم عبر احترام إرادة الشعب الصحراوي.
والمفارقة أن ما يطرح اليوم في أروقة الأمم المتحدة لا يختلف كثيرا عما وافق عليه الملك المغربي الراحل الحسن الثاني سنة 1981 خلال قمة منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حاليا) في نيروبي (عاصمة كينيا)، حين اعترف للمرة الأولى بمبدأ الاستفتاء في الصحراء الغربية، قبل أن تتخذ خطوات لاحقة لتنظيمه.
وبعد نحو نصف قرن، يجد العالم نفسه في حلقة مفرغة وهي الدعوة ذاتها، والخيار ذاته، لكن بغطاء جديد يهدف إلى ترسيم "مغربية الصحراء" بدل تمكين الصحراويين من قول كلمتهم بكل حرية.
ورغم أن مجلس الأمن يستعد للنظر في تمديد ولاية بعثة "المينورسو" (التي تشرف على تنظيم وإجراء الاستفتاء في الصحراء الغربية)، فإن التوجه العام يفيد بمحاولة حصر النقاش حول المقترح المغربي دون سواه، وهو ما اعتبرته الجزائر "نكوصا عن مبدأ الحياد الأممي".
في المقابل، يجدد الرئيس الصحراوي إبراهيم غالي، وبحكمة، استعداد جبهة البوليساريو لـ"تقاسم تكلفة السلام"، مؤكدا أن الحلول الحقيقية لا تفرض، بل تبنى على التفاهم والشرعية.

التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال