+ -

يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: ”الصيام لجام المتقين”، وفعلاً هو كذلك، فهو لجامٌ للشهوات الأربع: شهوة البطن، شهوة الفرج، شهوة الغضب، شهوة الكلام، فالصوم مدرسة لعلاج هذه الشهوات جميعها، الموجعة للفرد وللأسرة وللمجتمع برُمته، بل وللعالم كله. الصوم هو هذه ”المدرسة” الربانية التي تعالج الشهوات النفسية في وقت واحد.تخيل أن حبة من الأسبرين مثلاً تأخذها فتعالج لك أمراضًا أربعة في وقت واحد، مرض القلب والضغط والسكر والتوتر العصبي، حبة واحدة تعالج هذه الأمراض الأربعة، فهل يُقبِل عليها الإنسان أم لا؟! ذلك هو الصوم يُعالج هذه الشهوات الأربع التي تفسد الإنسان أو تصلحه، تُهلكه أو تُحييه، ويعيش الإنسان بها سعيدًا إن ألزمها اللجام، هذا هو اللجام الذي عبر عنه ابن القيم رحمه الله بقوله: ”الصيام لجام المتقين”.يقول الإمام الحسن البصري: ”ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك التي بين جنبيك”. فتخيل فرسًا تركبها بلا لجام، لابد أنك ستلقى مأساةً قريبةً جدا، قد تلقى حتفك في أول انطلاقة لهذا الحصان، سوف تنهار على الأرض فتصاب إصابات بالغة لا تستطيع علاجها، في حين يمكن للفارس المغوار أن ينطلق بسرعة فائقة على صهوة جواده ممسكًا بلجامه، فالصيام لجام المتقين لعلاج هذه الشهوات الأربع الغالبة المطاردة لكل نوازع الخير المدفونة في داخل الإنسان، وهي بداخلك وبداخلي وبداخلنا جميعًا، لا يغيرها أي شيء في عالم اليوم؛ لأنها فطرةُ الله كما قال سبحانه: {فِطْرَةَ الله التِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدينُ الْقَيمُ وَلَكِن أَكْثَرَ الناسِ لاً يَعْلَمُونَ}.فالإنسان كما هو معلوم عبارة عن ثلاثة أشياء: أولاً، روح علوية ربانية أتت من الملك سبحانه وتعالى تعبر عن روحه عز وجل: {ثُم سَواهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن روحِهِ}. ثانيًا، جسد من طين يهوي إلى الأرض: {أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتبَعَ هَوَاهُ}. وأخيرًا، عقل يختار ويصدر قرارات يومية لحظية، ففي كل دقيقة نختار بالعقل قراراتٍ توجهُ لإصلاح الروح أو توجهُ لإصلاح الجسد في إطار متوازن أو مختل، فإذا اختل العقل في اختياره أو اختار للروح أشياء كثيرة ونسي الجسد، حدث الضنك والشقاء، وهذا غير مقبول شرعًا، فلابد أن نعطي الجسد حقه مع الروح، لا أن نعطي الجسد كل شيء طعامًا وشرابًا ومركبًا وملبسًا ومتعة، وننسى حق الله، ننسى غذاء القلب والروح والوجدان، يقول الشاعر:أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنتَ بالنفس لا بالجسم إنسانومن هنا، فإن إسلامنا يريد لهذا العقل أن يتلقى هذه البرامج الربانية، فيتحول الإنسان كما خلقه الله إلى إنسان يشبع الجسد والقلب والعقل معًا، هذا هو الإنسان الذي يريده ديننا، الذي يَسْعَدُ في الدنيا والآخرة، الذي يعمرُ ولا يدمر، الإنسان غير الأناني الذي يأخذ ويعطي، الذي يصفح ويرحم، وليس يغضب ويثأر ويقتل ويظلم ويطغى ويتجبر. الحضارة المادية مكنت الإنسان من كل شيء، بضغطة واحدة على ”زر” تفتح سيارتك وتغلقها، بضغطة ”زر” تفتح التلفزيون وتتصفح فضائيات العالم كله، بضغطة ”زر” تفتح التليفون وتكلم أي مكان في العالم وهكذا، لكن هل هناك ضغطة ”زر” للتحكم في النفس للسيطرة على هذه الشهوات الأربع؟ شهوة البطن والفرج والغضب والكلام! هذه الشهوات التي جعلها الله لتعمير الأرض إذا استخدمت بطريقة ربانية سليمة وصحيحة، أو تدمر الأرض إذا استخدمت بطريقة شهوانية عارمة لا لجام لها، فالصيام وحده هو صمام ذلك كله، فلا لجام للهوى إلا بالصيام، ولا سبيل لتحصيل التقوى إلا بالصيام، ولا علاج للأنا إلا بالصيام.

 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات