+ -

يمر أزيد من سنة على بداية أزمة انهيار أسعار البترول، دون أن يظهر مخرج النفق، ما يبقي الاقتصاد الوطني في الظلام، لتبعيته الكاملة لما يدره ضرع البقــــرة الحلوبمن نفط أصبح “رخيصا”، حيث تهاوت أسعاره، ما يزيد من رعب الحكومة، بينما ظلت الحكومة متمسكة بتصريحات تحاول من خلالها بث الاطمئنان لدى المواطنين،رغم تبنيها سياسة التقشف والترشيد، وبقيت أسعار البترول تتهاوى إلى مستويات تنذر بعودة سيناريو أزمة 1986 التي هزت الجزائر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.صدمة 1986 الاقتصادية التي لم تستخلص منها الجزائر دروساالحكومة تعالج أزمة 2015 بتدابير كارثة الثمانينات تعيش الجزائر على وقع هاجس سيناريو أزمة سنتي 1986 و1987، على خلفية انهيار أسعار النفط التي ظلت الجزائر مرتبطة بها بنسبة كبيرة، ورغم التغيرات التي طرأت على بعض المؤشرات الاقتصادية العامة، إلا أن الصدمة قائمة، وهو ما يؤكد أن القائمين على تسيير الاقتصاد الجزائري لم يستوعبوا الدروس من أزمات الماضي ولا من تطور الدورات الاقتصادية وتأثيراتها، إذ بعد مرور قرابة 29 سنة على أزمة 1986، لم يطرأ أي تغيير جوهري على بنية الاقتصاد الجزائري.الأزمة تدق على الأبواب مجددا، والسلطات العمومية تسير على نفس إيقاع ردود الفعل، مع التوجه نحو الحلول الظرفية الترقيعية في غياب رؤية واضحة ومخططات مدروسة. بل أنه على عكس سنة 1986 و1987 لم تتحل الحكومة بالوضوح والشفافية اللازمة، لتكتفي بقرارات فوقية ذات طبيعة إدارية بيروقراطية بعيدة عن الواقع، ومسكنات لا يمكنها أن تحل جوهر الإشكال الذي يتخبط فيه الاقتصاد الجزائري منذ عدة سنوات، رغم الوفرة المالية التي استفاد منها خلال 15 سنة الماضية، والتي سمحت بتجنيد حوالي 800 مليار دولار، أي ما يعادل 8 مرات القيمة الحالية لمشروع مارشال الذي نجح في النهوض بأوروبا.أزمتا 1986 و2015 ظرف مختلف ووضع واحدبدأت ملامح أزمة سنة 1986 بتقلبات سعر صرف الدولار وتراجع إيرادات الصادرات بنسبة 40 في المائة، وبقيمة 4,7 مليار دولار ما بين 1986 و1985، حينها بدأت حكومة عبد الحميد إبراهيمي تدق ناقوس الخطر، وكان أمام الحكومة خيارات، منها تخفيض الواردات، حيث تكشف أرقام الجمارك أن واردات الجزائر سنة 1985 كانت تقدر بـ9,840 مليار دولار مقابل صادرات بـ10,445 مليار دولار وفائض في الميزان التجاري يقدر بـ305 مليون دولار، بينما بلغت الواردات عام 1986 ما قيمته 9,213 مليار دولار مقابل صادرات بـ7,820 مليار دولار وعجز في ميزان التجارة بـ1,393 مليار دولار. وفي هذه الفترة، باشرت الحكومة سياسات تقشفية وترشيدا للنفقات وضبطا للواردات، سمحت في مرحلة أولى برفع الميزان التجاري في 1987 إلى 1,177 مليار دولار، لكن تكلفة سياسات التقشف على المستوى الاجتماعي كانت مكلفة جدا، بل كانت لها تداعيات سلبية، مع بروز الندرة واللجوء المتسارع إلى الاقتراض، وبعد أن كان للجزائر احتياطي صرف في 1986 يفوق مليار دولار، بدأت المديونية الخارجية تتضاعف بسرعة، في ظل تردد البنوك في تقديم قروض على المديين المتوسط والبعيد، إذ كانت الجزائر تقترض بشروط صعبة لتسدد على المدى القصير، ما ساهم في ارتفاع معدلات خدمات الديون نهاية الثمانينات إلى أكثر من 6 مليار دولار وارتفاع الديون بداية من 1987 إلى 25 مليار دولار، لتفوق بسرعة سقف 30 مليار دولار.شبح الاستدانــةوكانت حكومات الإبراهيمي ثم قاصدي مرباح تأمل في عودة البرميل بسرعة إلى الأعلى، إلا أن استمرار الوضع أدى بالبلاد إلى الأزمة، رغم أن القطاع التجاري بقي في مستوى مرتفع، حيث بلغت الصادرات عام 1988، أي مع أحداث أكتوبر 1988، حوالي 8,10 مليار دولار مقابل واردات بـ7,3 مليار دولار، لكن بالمقابل سجلت مديونية البلاد زيادة معتبرة، حيث انتقلت من 18,5 مليار دولار عام 1985 إلى 28,6 مليار دولار عام 1989، وهو ما دفع الجزائر خلال التسعينات للجوء إلى صندوق النقد الدولي واعتماد ثلاثة برامج استقرار وتصحيح هيكلي، الأول في 1989 أو ما يعرف بـ”ستاندباي”، والثاني في 1991 والثالث في 1994 مع برنامج إعادة جدولة الديون الخارجية، والتي تسببت بعدها في اعتماد إجراءات قاسية، منها تخفيض قيمة الدينار الذي فقد أكثر من 40 في المائة من قيمته، وتآكل القدرة الشرائية، فضلا عن برامج تسريح للعمال شملت أكثر من 600 ألف عامل وغلق مؤسسات أو خوصصة بعضها، ما ساهم في تراجع النسيج الصناعي الذي لم يعد يمثل سوى 5 في المائة من الناتج، مقابل 15 في المائة في نهاية السبعينات. وعلى عكس الأزمة الحالية، فإن سنتي 1986 و1987 فتحتا المجال لاعتماد سياسات إصلاحية “جريئة” آنذاك، وإن تباينت المواقف بشأن مسألة الحفاظ أو إلغاء التخطيط المركزي بضوابط السوق أو إصلاحه، حيث تمت مراجعة احتكار الدولة على التجارة الخارجية، وتشكيل بمعية الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد مجموعة عمل شملت خبراء في الاقتصاد والمالية والاجتماع والتربية والتسيير، قدموا في 1987 أول تقرير، تم تبني العديد من مبادئه من قبل حكومة حمروش في 1989.نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائجوتأتي الأزمة الجديدة بمؤشرات مماثلة، فالنسيج الصناعي يبقى متواضعا، والصناعة لا تمثل سوى 5 في المائة من الناتج المحلي الخام، كما أن المحروقات تمثل 96 في المائة من الصادرات و60 في المائة من الجباية. وعلى غرار ما تم في أزمة 1986، حيث قررت الحكومة التخلي عن تطبيق المخطط الخماسي 1985-1989، حيث كان ميترو الجزائر من بين المشاريع المضحى بها، فإن الحكومة الحالية بدأت بتعليق أو إلغاء المشاريع التي لم تعتمد، بما في ذلك مشاريع الترامواي، وعلى خلاف الوضع في 1986، فإن الجزائر استفادت من احتياطي صرف يغطي عمليات التجارة الخارجية ويقدر بحوالي 150 مليار دولار حاليا، كما أن مستوى المديونية متدن بـ3,5 مليار دولار. لكن بالمقابل، تعاني الجزائر من زيادة عجز في الميزان التجاري بحوالي 7 مليار دولار وميزان المدفوعات خلال السداسي الأول من السنة، فضلا عن زيادة اقتطاعات صندوق ضبط الإيرادات الذي يمكن أن ينضب تقريبا في 2017، إذا استمر تراجع سعر البرميل من النفط. ويتوقع الخبير الدولي جورج ميشال أن تتأثر دول عديدة مصدرة للنفط في 2016، مع استمرار تدهور إيراداتها بنسبة 40 إلى 45 في المائة، مشيرا إلى أن الجزائر من بين البلدان التي ستعاني لضيق هوامش حركتها وعدم تنوع اقتصادها، حيث ستمثل السنة المقبلة عاما صعبا بالنسبة للاقتصاد الجزائري.الاقتصــــادي محمــد بهلــــول لـ”الخبر”“الجزائر ليست بمنأى عن أزمة أشـد من صدمـة الثمانينـات”اعتبر الدكتور والاقتصادي ومدير معهد التنمية للموارد البشرية، محمد بهلول، أن تداعيات تقلبات أسعار النفط يمكن أن تقود إلى صدمة أشد من تلك التي عاشتها الجزائر خلال الثمانينات، حيث ستؤثر مع استمرارها على مؤشرات الاقتصاد الكلي بسرعة، وندخل بعدها مرحلة كلفة الأزمة التي بدأت أول مظاهرها بتدهور قدرة الدينار الشرائية.وأوضح الدكتور بهلول، لـ”الخبر”: “نشهد أول إرهاصات أزمة في الأفق مع هشاشة العملة، حيث يفقد الدينار من قيمته، ولكن أيضا مع بروز مضاعفات ستمس الاستثمار والتشغيل والمشاريع”، مضيفا أن البنية الاقتصادية للجزائر هشة وهي تماثل تقريبا ما كان سائدا خلال الثمانينات مع فوارق، حيث كانت الجزائر تمتلك قدرة تصديرية، فضلا عن صناعة منتجة، بينما نرتكز حاليا على تعظيم ميزانيتي التجهيز والتسيير والاستيراد، وهو وضع يقود إلى الانسداد”. وأشار بهلول أنه لم يتم طوال السنوات الماضية استخلاص الدروس من الماضي، لغياب المؤسسات التي تجعل من تراكمات الماضي رأسمال يتم توظيفه، إذ تنعدم مثل هذه المزايا في غياب هيئات ومؤسسات، حيث وجدت كل المساعي الرامية إلى التغيير طريقا مسدودا وعقبات وكوابح حالت دون إحداث أي تغيير جوهري، سواء على مستوى البنية الاجتماعية أو المجموعات الاجتماعية التي تؤطر الاقتصاد الوطني، هذا الأخير الذي يظل غير تنافسي ومغلقا. وبخصوص ردود الفعل لمواجهة أو الحد من تأثيرات الأزمة، لاحظ الدكتور بهلول أن الحوكمة الرشيدة ضرورية، لكن ما يلاحظ هو محدودية التدابير التي يتم اعتمادها لمواجهة الأزمات، حيث يتم اللجوء إلى اقتطاعات في الميزانية تحت باب الترشيد، ولكن ما كان لا بد أن يتم القيام به هو توظيف محكم لموارد السوق وتجنيدها، وبدلا عن ذلك يتم اللجوء إلى حلول جاهزة منها الحد من تداول العملة الصعبة أو مراقبتها أو ضبطها وتعليق أو إلغاء المشاريع وتوقيف التوظيف لاسيما في الوظيف العمومي، ومحاولة استقطاب جزء من الموارد المالية المتداولة في السوق الموازي، وهذه حلول غير كافية لمواجهة أزمة حادة.الخبير النفطي، مراد برور، لـ “الخبر”“الجزائر تواجه أزمة عنيفة”البترول فقد 60 بالمائة من قيمته في بضعة أشهرهل تواجه الجزائر نفس سيناريو أزمة 1986؟ أستبعد شخصيا تشبيه أزمة تهاوي أسعار البترول الحالية بأزمة سنة 1986، إلا أن وقع الأزمة بالمقابل سيكون له تأثيرات مشابهة لتلك التي تعرضت لها السوق النفطية سنة 2009، والتي كانت وراء فقدان الدول المصدرة الملايير من الدولارات، بالرغم من أن وتيرة تراجع الأسعار لم تدم لمدة طويلة، وتعود أوجه الاختلاف بين الأزمة الراهنة وتلك التي وقعت سنة 1986 إلى أن إغراق السوق من المواد الطاقوية خلال أزمة منتصف الثمانينات يعود إلى ضخ كميات معتبرة من إنتاج النفط التقليدي، خاصة حقول بحر الشمال، أما حاليا فإن الأمر يتعلق أيضا بالإنتاج النفطي غير التقليدي، كما هو الشأن بالنسبة للغاز والبترول الصخري، وهي موارد مكلفة من الناحية المالية.وعلى هذا الأساس، فإن أزمة الثمانينات من القرن الماضي، بالموازاة مع نتائجها السلبية، رفعت حصة بلدان منظمة الدول المصدرة للنفط، لتصل إلى 56 في المائة من الإنتاج العالمي للطاقة سنة 1993، بينما كانت تقدر فقط بـ 29 في المائة سنة 1985، وتراجعت هذه الحصة في المرحلة الراهنة، ما يجعل قدرة المنظمة على التأثير على سوق النفط العالمية على المحك، خاصة إثر تعنت المملكة العربية السعودية وإصرارها على عدم مراجعة سقف الإنتاج، بصرف النظر عن تداعيات ذلك على الأسعار.ما هي المستويات التي قد يصل إليها سعر النفط ؟ في الحقيقة من الصعب التوقع على سبيل الدقة بمستوى سعر البترول، إلا أن الوثيرة الحالية المتسارعة تكشف بأن الأسعار ستصل إلى مستوى 40 دولارا في الأفق القريب، بالنظر إلى العديد من العوامل ذات البعد الاقتصادي والاستراتيجي، في وقت تبقى الأسعار غير قابلة للاستقرار تتجاذبها مصالح دول مختلفة، مهددة الدول أحادية الاقتصاد على غرار الجزائر بمواجهة صدمة عنيفة، حيث فقد البترول 60 في المائة من قيمته في مدة قصيرة، لا تتجاوز بضعة أشهر.تبعا لهذه المعطيات، أعتقد أن أسعار الطاقة لن تعرف منحى تصاعديا إلا بنهاية سنة 2016 على الأقل، تدفعها في ذلك تضافر عدة أسباب البعض منها يرتبط بمعادلات تحكم سوق النفط، كدخول الإنتاج الإيراني وكذا البترول العراقي والليبي، وتواصل مد السوق بكميات كبيرة تنتجها دول من داخل أوبك ومن خارجها، وأسباب أخرى ترجع إلى ركود الاقتصاد العالمي وتضاؤل حجم الطلب جراء ذلك، وهو ما يظهر في تراجع الكميات المستغلة من طرف الصين التي تعتبر أول مستهلك للطاقة في العالم.ما مصير الجزائر في حال تواصل تهاوي الأسعار؟ أعتقد أن السؤال المهم يرتبط بقدرة الجزائر على الصمود إلى غاية “تعافي” أسعار المحروقات واسترجاع المداخيل الوطنية من الصادرات مستوياتها المقبولة، خاصة أن الوضعية لا تعني الاقتصاد الوطني فحسب، بل كل دول العالم تأثرت بشكل أو بآخر، في وقت تطرح الإجراءات المتخذة من قبل السلطات العمومية كرد فعل لتجاوز الأزمة العديد من علامات الاستفهام، كما هو الأمر بالنسبة لتبني خطة ترشيد النفقات التي تسببت في وقف عدة مشاريع، في حين كان على الحكومة العمل على تطوير القطاعات البديلة لاقتصاد الريع النفطي، على غرار المجال الصناعي الذي لا يساهم سوى بـ 5 في المائة من الناتج الداخلي الخام، بالإضافة إلى مراجعة سياسة الدعم الموجهة لأسعار منتجات استهلاكية مختلفة والمواد الطاقوية على وجه الخصوص، كالوقود والكهرباء والغاز، حيث أنه من غير المعقول تعميم نفس السعر على جميع فئات المجتمع وتحميل الخزينة العمومية حوالي 30 في المائة من الميزانية السنوية لتغطية فرق أسعار المواد المدعمة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: