تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى مصانع غير تقليدية لتشكيل الرأي العام وتوجيهه وتغذيته بالمعلومات التي تؤثر فيه وتضمن ولاءه، ومن ثمة فهي تتحكم في عملية رسم وتوجيه اهتمام المستخدمين نحو الموضوعات والقضايا التي تمثِّل أولوياتهم، مع قدرتها على فرض أجندة محددة على المواطن والمثقف والسياسي على حد سواء.
إضافة إلى ذلك، فهي تنطوي على دور بالغ الأهمية والفعالية في ترسيخ هُويات الدول والترويج لقيمها وسياساتها، وكذا الدفاع عن مصالحها وتوجهاتها الإستراتيجية، في إطار ما يسمى بالدبلوماسية الرقمية التي باتت اليوم تتم فصل في الكون الرقمي وتُرسِّخ وجودها بقوة، مستهدفة بذلك الشعوب الأجنبية في سبيل خدمة الأهداف الإستراتيجية للسياسة الخارجية وتعزيز مواقفها عالميا، بشكل بات يتماهى مع الدبلوماسية العامة ويندمج معها حد الذوبان، خاصة بعد أن انتقلنا إلى مجتمعات رقمية بالكامل، لها خصوصيتها وأدواتها التواصلية مع طرائق تلَقِّي جديدة عابرة للأوطان، ضمن نظام عالمي هجين يتم في بوتقته تكوين الرأي العام بشكل يصعب السيطرة عليه باستخدام الوسائل التقليدية التي كانت سائدة قبل تعاظم سطوة المنصات الاجتماعية والإعلام الجديد.
ويرجع ذلك أساسا إلى تعقيده وسرعة التحولات التي يعرفها وتشعب الديناميات التي يسير بها، بحيث صار من العسير السيطرة على ثبات وتجذر السرديات والدعايات الموجهة للشعوب الأخرى وللرأي العام الأجنبي، بعد أن كانت تصنعها وسائل الإعلام التقليدية والنخب والدبلوماسية التقليدية لتحقيق القوة والنفوذ والتأثير، في نموذج الاتصال العمودي، وفي إطار الاستخدام الذكي للقوة الناعمة؛ فعالم اليوم يعرف تضاعفا في عدد الفواعل التي تصنع السياسة الدولية حتى من غير الدول، كالمنظمات غير الحكومية، مع سقف حرية غير محدود يساعد على نشر المعلومات بسرعة كبيرة، بالإمكان أن تجوب الكوكب في ثوان قليلة، بغض النظر إن كانت صحيحة أو خاطئة.
ولذلك، فإنه من الحمق أن يصدق المستخدم كل شيء يتم القذف به في وسائط التواصل الاجتماعي، من أخبار ومعلومات وصور وفيديوهات وتسجيلات صوتية، دون أن يتساءل عن مصداقيتها وصحتها ومعقوليتها وسياقاتها ومصدرها، فنحن نعيش اليوم في عصر ما بعد الحقيقة، حيث التضليل والتلاعب بالرأي العام سِمته الأساسية، تتناسل فيه الأكاذيب والحقائق البديلة بكثافة، وتنتشر بسرعة وبشكل فيروسي، بفضل الخوارزميات والذكاء الاصطناعي، حتى أنه من الصعب على غير المتخصص أن يفرق بين الأصلي والمزيف، وبين الحقيقي والكاذب، بسبب التقدم الرهيب في نوعية التقنيات المستخدمة في إنتاج المحتوى، خصوصا تقنية الزيف العميق التي يقود بنا رصدها إلى القول بأنها ستتعملق مستقبلا وتطغى على المحتوى المنتشر على الشبكات والمنصات الاجتماعية، ويصير من الصعب مواجهة مضاعفاتها على جمهور المستخدمين والرأي العام الرقمي، لاسيما في إطار الحروب الهجينة من الجيلين الخامس والسادس التي يتزايد وهجها ويتثاير شررها.
وإذا كانت الدبلوماسية الرقمية تستخدم اليوم المنصات الاجتماعية لإدارة وبناء العلاقات مع الدول والشعوب الأخرى، وتحسين صورة الدولة أو تغيير الأنماط الذهنية المترسخة لدى الجمهور المستهدف، فإنها أيضا تستخدم راهنا كسلاح بالغ الضرر، لاسيما في حالة وجود صراعات ونزاعات بين الدول، سلاح يستقي أهميته وفعاليته من خلال قدرة الدبلوماسية الرقمية على إطلاق حملات موجهة ومدروسة لتشويه الأعداء وضرب صورتهم والسخرية منهم، أو من خلال مواجهة السياسة الثقافية الخارجية للخصوم ومكافحة الحملات الدعائية التي تستهدفها، وكذا الإمكانية الكبيرة لاختراق مناطق النفوذ البعيدة جغرافيا، وسهولة التغلغل الناعم وسط جماهير وشعوب الدول المعادية، لاسيما في عصر الاضطراب هذا، الذي يعرف تناميا ملحوظا للنزعات العدائية بين دول العالم، وانهيار السرديات الكبرى وتفكك سلاسل وشبكات العلاقات الدولية التي كانت تحفظ التوازن والهدوء، مما ينذر بمزيد من الصراعات ونشوب حروب جديدة مستقبلا، يندلع أغلبها بسبب رذائل الجيوسياسية، التي يأتي على رأسها الجوع الوجودي للهيمنة والسيطرة والنفوذ، تأججه طبقات كثيفة من الأحقاد التاريخية، وتنفث فيه البواعث الدينية التي تطل برأسها من خلف أستار القرون الماضية.
فالدين ليس حضورا رمزيا في كل الحروب التي شهدها العالم إلى وقت قريب، وإنما كان المحرك الخفي والظاهر لها، فلا يوجد أخطر من الفكرة الدينية إذا اختطفتها الأيديولوجيا، واحتكر تأويلها الجاهلون وقننها الساسة، لأن هؤلاء جميعا، ينظرون إليها نظرة استعمالية، فيحولونها في نهاية المطاف، إلى مجرد أداة سالبة للحياة والحرية والفطرة والعقل، وآلة جبارة لصناعة القطيع والأتباع والعبيد، ولا بأس هنا أن نذكر بأن "لودفيغ فيتغنشتاين"، وهو أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين، وبالرغم من اعترافه بأنه ليس رجلا متدينا، إلا أنه اعترف أيضا، بأنه لا يملك سوى أن يرى كل مشكلة من منظور ديني؛ أما نحن فنتعامى عن تفسير مشكلاتنا تأسيسا على ما جاء به ديننا الحنيف، مخافة تهم واهية وجاهزة من حراس "العلمانية المزيفة"، بتعبير "جون بوبيرو"، ورضوخا للمؤسسات والمنظمات الدولية التي تحتكر توزيع التصنيفات المعيارية على المخالفين للنظام العالمي، بناء على خلفياتهم الدينية، لاسيما المسلمين.
وعطفا على ما ذكرنا، فإنه لا يمكن الحديث عن حرب غزة إلا في سياقها وتفسيرها الديني. ووفقا لهذا الفهم فقط، يمكننا استكناه سر كل هذا التوحش والبربرية والتعطش للدماء الذي يميز سلوك الكيان الصهيوني، الذي ينهل من المعين التوراتي الملوث بالكراهية والدعوة إلى قتل الأغيار وإبادتهم، يعضده في هذا ويوافقه، الإنجيليون المسيحيون في أمريكا وأوروبا.
لقد كانت الحروب الدينية أكثر الحروب دموية على مر التاريخ، وحرب غزة ليست استثناء، بل هي ذروة هذا النوع وأشدها دموية بسبب التطور الهائل في أسلحة الفتك والقتل والإبادة، ولأنها أيضا، وهذا الأهم، ممتدة في الزمن بتقسيماته الثلاثة، وتقف على طبقات تاريخية كثيفة، وإرث ضخم من العداء الديني الحي، وهي مرتبطة ارتباطا شديدا ووثيقا بالأخرويات وملاحم آخر الزمان الواردة في السرديات الدينية.
لقد قادت مواقع التواصل الاجتماعي في نهاية المطاف، إلى انكسار السردية الصهيونية وانفضاحها أمام كل شعوب العالم، وأضحى الكيان منبوذا وفردياته تتعرض للملاحقة في كل الدول مع تنامي مشاعر الكراهية لها، بسبب الفيض المعلوماتي والحقائق المصورة التي أبانت عن توحشه وإيغاله في سفك الدماء دون وازع أخلاقي، حتى أن مجلة السياسة الخارجية (FP) الأمريكية، وهي من بين المجلات المرموقة الموجهة للنخبة، ويكتب بها كتّاب وباحثون مرموقون، ذكرت في مقال للكاتب "ديون نيسنبوم"، في عدد سبتمبر الفارط، بأن شعبية الكيان صارت في أدنى مستوى لها بشكل غير مسبوق، وأن الحرب على غزة أدت بكثير من قادة دول العالم المشمئزين مما يحصل في هذه الحرب المستعصية، إلى التهديد بالاعتراف بدولة فلسطينية، في حين أن دولا مثل أيرلندا وليتوانيا وإسبانيا، تتوعد باعتقال نتنياهو إذا وطئ أراضيها، وتقديمه أمام المحكمة الجنائية الدولية، بسبب جرائم الحرب المرتكبة في غزة، وأن هناك إجماعا متزايدا على اعتبار حرب إسرائيل على غزة هي إبادة جماعية، حتى في أوساط علماء الهولوكوست والقادة الإسرائيليين السابقين، وجماعات حقوق الإنسان، ومشاهير هوليوود، والنخبة المثقفة الإسرائيلية. كما أن صور المجاعة التي تضرب غزة، أدت إلى مضاعفة الإدانة الدولية للسياسات الإسرائيلية، التي تواصل تجويع القطاع.
هذه الوضعية المتهالكة التي آل إليها الكيان بعد تفكك سرديته ودعايته ونفوذه لدى الجمهور الغربي والرأي العام عموما، قادت إلى إحداث حالة استنفار قصوى لدى رئيس الوزراء الصهيوني، نتن ياهو، بعدما أدرك مع قادته، دور مواقع التواصل الاجتماعي في إحداث هذا الضرر البالغ الذي أصاب صورة الكيان في مقتل بسبب الحرب على غزة، وهو الضرر نفسه الذي أشار إليه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عندما أطلق في وقت سابق عدة تصريحات قال من خلالها بأن هذه الحرب أدت إلى عزل إسرائيل دوليا، وشوهت صورتها، وأدت إلى فقدانها الدعم المطلق في الكونغرس، وأن هدفه من إنهاء الحرب هو استعادة مكانة إسرائيل الدولية بعدما خسرت الكثير من الدعم في العالم.
استعادة صورة الكيان بعدما خسرت بريقها وتألقها السابق، بسبب السيطرة على التدفقات الإعلامية في العالم، التي جفت بفعل حرية النشر على مواقع التواصل الاجتماعي والنفاذ السريع للمعلومات والصور المروعة من داخل غزة، رغم منع الإعلام الدولي من دخولها، هو ما جعل الحقيقة التي حاول الكيان حجبها، تتسرب من خلال المنصات الاجتماعية وتفضح ممارساته الوحشية واللاإنسانية لدى الرأي العام الدولي. وهذه الانتكاسة الكبيرة والتاريخية للدعاية الصهيونية، كانت سببا وجيها لأن يستنفر نتن ياهو ويهتدي إلى التعاقد مع عدد من المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي بمقابل مادي، للعمل على ترميم ونشر السردية الصهيونية والدفاع عنها، في خطة تتغيا تبيض وجه الاحتلال وتحسين سمعته الرقمية، وإخراجه من العزلة العالمية التي بات يواجهها.
ومن المهم أن نشير هنا إلى تقرير نشره موقع "Responsible Statecraft"، التابع لمعهد كوينسي للأبحاث بأمريكا، الذي كشف أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي تدفع لمؤثرين على "تيك توك" و"إنستجرام" نحو 7 آلاف دولار عن كل منشور يشارك في تبرير عملية الإبادة التي ترتكبها في غزة وتبييض وجه الاحتلال أمام العالم، ضمن حملة إعلامية تقودها وزارة خارجية الاحتلال الإسرائيلي.
كما ذكر التقرير أيضا أن فواتير المؤثرين الذين يستقطبهم الكيان، بلغت قيمتها 900 ألف دولار خلال 6 أشهر، صُرفت لمجموعة من 14 إلى 18 مؤثرا على مواقع التواصل المختلفة، من بينهم مؤثرون يمينيون ينشرون الرواية الإسرائيلية بقوة، لأن الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي صارت سلاحا، يفوق في تأثيره قوة القنبلة النووية، كما سبق أن أشار نتن ياهو، لاسيما "تيك توك" و"أكس".
كما كشف تقرير استقصائي لمنصة "دروب سايت" عن إبرام شركة "غوغل"، اتفاقية بقيمة 45 مليون دولار مع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتن ياهو، بهدف تعزيز الدعاية الإسرائيلية لإخفاء أزمة الجوع المتفاقمة في قطاع غزة، في إطار حملة رقمية واسعة أطلقتها الحكومة الإسرائيلية بعد تصاعد الاتهامات الدولية لها بالتسبب في مجاعة في غزة من خلال منع المساعدات الإنسانية، إضافة إلى العديد من العقود مع شركات التقنية من أجل تجميل صورة الكيان وسمعته والدعاية له على المنصات الاجتماعية، حيث تعاقدت وزارة الخارجية الإسرائيلية مع شركة تُدعي "كلوك تاور إكس"Clock Tower X.، يقودها المستشار السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب "براد بارسكال"، ويحصل مقابلها على ستة ملايين دولار، بهدف إنتاج محتوى موجه خصيصا لجيل الشباب الأمريكي من الجيل زاد (Gen Z) على منصات مثل "تيك توك" و"إنستغرام" و"يوتيوب"، شريطة أن تحقق الشركة ما لا يقل عن خمسين مليون مشاهدة شهريا، وأن تُخصص 80 بالمائة من إنتاجها لجيل الشباب.
هذا الجيل الذي بات منفلتا من الأطر الإعلامية والدعائية بفعل انفتاحه على نوافذ أخرى لاستيقاء المعلومات وتشرب الحقائق؛ من خلال منصات التواصل الاجتماعية وتطبيقات الهاتف النقال، وإن كان دهاقنة التقنية والسياسة يحاولون السيطرة عليه وتوجيهه من خلال الخوارزميات والذكاء الاصطناعي، لاسيما حاليا؛ من خلال جعل محرك الذكاء الصناعي ChatGPT أكثر تأييدا لإسرائيل.
وبرغم كل هذه الجهود والأموال الطائلة التي تصرف على الدبلوماسية الرقمية والدعائية الصهيونية، لإنقاذ صورة الكيان المتهالكة وكسب معركة الرأي العام من جديد، إلا أن البيانات التي تصدرها مراكز البحوث المتخصصة في مواقع التواصل الاجتماعي، تبرز التحول الجذري في الرأي العام حيال الكيان بسبب غزة، بحيث كشفت دراسة جديدة أجريت شهر سبتمبر الفارط، ونشرتها الجريدة النخبوية الأمريكية "واشنطن بوست"، نقلا عن معهد (Cybersecurity of democracy) أنه مقابل كل مقطع يُنشر على "تيك توك" مؤيد للكيان، يتم بالمقابل نشر 17 مقطعا مؤيدا لفلسطين.
وهذه المعطيات كفيلة بأن ندرك لماذا يحرص نتن ياهو على حث مجموعات المؤثرين اليمينيين الأمريكيين الداعمين لإسرائيل خلال لقائه بهم، للتركيز على "تيك توك" لنشر الدعاية الإسرائيلية، وسر السعار المحموم من أجل عقد صفقة الاستحواذ على الموقع في أمريكا، ومن ورائهم الصهاينة، خصوصا إذا علمنا بأن تكتلا من رجال الأعمال اليهود الموالين والداعمين لإسرائيل، أبرزهم المدير التنفيذي لشركة (أوراكل)؛ وهو الملياردير اليهودي الصهيوني "لاري إليسون"، أكبر متبرع للجيش الصهيوني، ويضم اتحاد الشركات الأمريكية التي اشترت "تيك توك"، ثلاثة من اليهود الأمريكيين (أصحاب شركة أوراكل، ومايكل ديل، وروبرت موردوخ).
* عبد العالي زواغي/ كاتب وباحث

التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال