اعلم أن المقصود الأعظم بالنية في جميع الأقوال والأفعال مرتبتان هما: تمييز العادات عن العبادات، وتمييز العبارات بعضها عن بعض، كالوضوء والغسل مثلا فقد يقصد بهما الإنسان حال قيامه بهما التبرد أو التنظيف، أو لأداء عبادة معينة، فهما يترددان بين هذه الأمور ولا تتعين الجهة المقصودة إلا بالنية، وكذلك الإمساك عن المفطرات، فقد يكون لعدم الحاجة إلى الطعام، وقد يكون للتداوي من مرض معين، وقد يكون لحمية التزم بها الإنسان من أجل رشاقته مثلا، وقد يكون لأجل العبادة (الصيام)، ومن هذا القبيل بذل المال للغير؛ قد يكون من باب الهبة أو الصدقة أو الرشوة أو المجاملة لغرض دنيوي، أو الكفارة، وغير هذه الأمثلة كثير.
هذا في التمييز بين العادات والعبادات، وأما التمييز بين العبادات بعضها عن بعض فمثاله الوضوء والغسل والصلاة والصيام، فهذه جميعها قد تكون فرضا وقد تكون نفلا وقد تكون نذرا، وغيرها كثير أيضا ويترتب على ما سبق أمور:
-عدم اشتراط النية في عبادة لا تكون عادة للإنسان أو لا تلتبس بغيرها، كالإيمان والعرفان والخوف والرجاء والأذان والأذكار والتلاوة وقراءة القرآن لأنها متميزة بصورتها. قال العيني في شرح صحيح البخاري ”الإجماع على أن التلاوة والأذكار والأذان لا تحتاج إلى نية”، وعقد لها ابن السبكي قاعدة فقال: ”قاعدة ما تميز بنفسه لا يحتاج إلى نية، ومن ثم لم يحتج الإيمان والعرفان والأذان والأذكار والقراءة إلى نية التقرب بل كفى مجرد القصد ليخرج التداخل فإنه غير فاعل في الحقيقة”.
-ما يلتبس بغيره من العبادات، فهذا اشترط فيه التعيين، قال النووي في شرح المهذب: (ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ”إنما لكل امرئ ما نوى”، فهذا ظاهر في اشتراط التعيين لأن أصل النية فهم من أول الحديث ”إنما الأعمال بالنيات”). فمن ذلك الصلاة، فيشترط التعيين في الفرائض لتساوي الظهر والعصر فعلا وصورة، فلا يميز بينهما إلا التعيين وكذلك في النوافل المطلقة كالرواتب فيعينها بإضافتها إلى الظهر مثلا، وكذلك التي قبلها أو التي بعدها، وكذلك العيدين يعينهما بالفطر والنحر، ولكن الصحيح المعتمد عند الحنفية في مسألة السنن والرواتب عدم اشتراط النية لأنها تصح بنية النفل، وبمطلق النية.
إن الذي يخاطب به المكلف نوعان: أمر مقصود فعله وأمر مقصود تركه، فأما المقصود فعله فهذا لابد فيه من نية وقد سبق الحديث عنه، وأما المقصود تركه كإزالة النجاسة من الثوب والبدن والمكان المعد للعبادة وأداء الديون الواجبة وغيرها، فلا تحتاج إلى نية. أما بخصوص النواهي كترك الزنا وجميع الفواحش، فإنها لا تحتاج إلى نية البتة لمجرد القصد ولا غيره، بل يحصل اجتناب النواهي بكونها لم توجد.
لقد تبيّن لنا أن الترك والنواهي لا تحتاج إلى نية، لكن إذا أراد القائم بها الثواب عليها، فإن عندها لابد له من نية التقرب لله تعالى، وكذلك فإن من همّ بمعصية ونوى الكف عنها يثاب على ذلك، فتبيّن بهذا أن للنية مدخلاً في الثواب. هذا بخصوص اشتراط النية في الفعل وعدم اشتراطها، أما فيما يتعلق بتعيين المنوي وعدم تعيينه فله صور أخرى نذكرها فيما يلي:
1-ما لا يشترط التعرض له جملة أو تفصيلا إذا عينه المكلف وأخطأ في تعيينه لم يضر فعله، كتعيين مكان الصلاة وزمانها، وكذا إذا عين الإمام من يصلي خلفه، أو صلى في الغيم، أو صام الأسير ونوى الأداء والقضاء فبان خلافه.
2-ما يشترط فيه التعيين فأخطأ المكلف في تعيينه، فإن ذلك الخطأ يكون مبطلا للمنوي كالخطأ من الصوم إلى الصلاة وكذلك العكس، ومن صلاة الظهر إلى صلاة العصر وغيرها.
3-ما يجب التعرض له جملة ولا يشترط تعيينه تفصيلا، فإذا عينه المكلف وأخطأ في تعيينه ضر بالفعل، ومن أمثلة ذلك: لو نوى قضاء ظهر يوم الاثنين مثلا ولكن ما ترتب عليه من القضاء هو ظهر يوم الثلاثاء ولم يجزئه ذلك، وكذلك لو نوى ليلة الإثنين صيام يوم الثلاثاء لم يصح ذلك منه بلا خلاف، ومن هذا القبيل لو تعلقت بذمته كفارة الظهار فأداها بنية كفارة القتل لم تجزئة.
الخبر
19/06/2025 - 00:54
الخبر
19/06/2025 - 00:54
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال