أكثر ما يؤثّر في الناس هو الواقع، وقليل منهم من يستطيع تجاوز هذا الواقع، والخلوص إلى عمق الظواهر، وفهم مآلات مسار الحياة، واستيعاب أبعادها؛ ولهذا تغلب السطحية على عامة الناس، بل تغلب السطحية حتى على النخبة في فهم أحداث التاريخ الكبرى، والقلة القليلة من تكون لها نظرة استراتيجية تستشرف المستقبل، وتحسن فهم مسارات تطور أحداث الحاضر، في حين أن عامة الناس ممن يعدون أنفسهم عقلاء أو أذكياء أو ربما أفهم الناس قد يصل بهم الأمر إلى الاستهزاء بالتوقعات المستقبلية، والتهكم بمن تكون له نظرة استراتيجية تستشرف المآل، وتستبصر العاقبة، وهذا ما نبهنا عليه القرآن العظيم في موقف المشركين من سيدنا نوح عليه السلام: {ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إِن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم}.
لقد كان موقف سيدنا نوح عليه السلام مبنيا على علم يقني مما سيكون عليه الأمر في العاقبة، في حين كان المشركون المكذبون من قومه غارقين في النظرة الواقعية، محجوبين عن استشراف المستقبل القريب، مستمسكين بثقتهم بمعطيات الواقع واستبعاد ما ينذرهم به النبي الكريم الذي صبر عليهم ألف سنة إلا خمسين، “وهو كان يصنع السفينة في موضع بعيد عن الماء جدا، وكانوا يقولون: ليس هاهنا ماء، ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار، فكانوا يعدّون صنعه لها من باب السفه والجنون. ثم إنه لما طالت مدته معهم وكان ينذرهم بالغرق، وما شاهدوا من ذلك المعنى خبرا ولا أثرا غلب على ظنونهم كونه كاذبا في ذلك المقال، فلما اشتغل بعمل السفينة لا جرم سخروا منه”. فقوم نوح غرقوا في معطيات الواقع، ولم يقدروا على استشراف المسار المستقبلي للأحداث، فكانوا مغرقين، وقطع دابرهم.
وفي ذات المعنى نجد القرآن العظيم يؤكد على كون المسار (الاستراتيجي) للأحداث هو العامل الحاسم في الحياة، وأن المعطى الراهن غالبا ما يخفي مآل الأحداث، ويغر كثير من الناس، الذين يتوهمون بسبب معطيات الواقع الملموسة أن هذا الواقع لن يتبدل ولن يتغير، والعجب أن أكثر الناس هذا هو منطقهم الذي يرونه عين العقل وعين العلم، مع أن تاريخ البشرية كله يقرر غير ذلك، ويؤكد أنه (ما بين غمضة عين وانتباهتها *** يغير الله من حال إلى حال)، والعبرة بالخواتيم، يقول الله عز شأنه: {.. فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون}، {..استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}، {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون}، إلى غيرها من الآيات التي تتحدث عن العاقبة، وقد تكررت كثيرا في القرآن الكريم، وكلها تحذير من الاغترار بالمعطيات الراهنة والأحداث الحاضرة، وتنبيه على أهمية النظرة الاستراتيجية) المستقبلية في فهم مسار الأحداث، لاتخاذ الموقف المناسب واتباع القناعة الصائبة.
وإغفال هذه القضية الهامة هو الذي جعل بعض الناس لا يقدرون طوفان الأقصى وآثاره تقديرا سديدا، ذلك أن لطوفان الأقصى آثارا كثيرا، وستنتج عنه نتائج مذهلة، وإذا كان حال الضحايا الأبرياء الذين ينكل بهم يؤلمنا أشد الألم وأمره، فإن صمودهم المذهل فخر لكل حر، وسيكون مدرسة لأجيال الأمة القادمة، وهنا تظهر أهمية الآثار الاستراتيجية للطوفان المبارك، والتي هي مبشرات بتحرير قريب، ونهاية عاجلة للكيان المجرم. وهذه إضاءة صغيرة: الكيان الصهيوني في وجوده هو عبارة عن معادلات من أهمها: المعادلة الجيوسياسية، والمعادلة الأمنية، والمعادلة الديمغرافية، وقد هز طوفان الأقصى كل هذه المعادلات:
أما الجيوسياسية، فوجود الكيان هو أحد نتائج الحرب العالمية الثانية، ولا يخفى على أحد أن النظام العالمي يمر بمرحلة تغير؛ للخروج ممن الوضع الذي فرضه الغرب على العالم بعد هذه الحرب، وجاء طوفان الأقصى محركا قويا لهذا التغيير، فقد أسقط قيم الغرب نهائيا، هذه القيم التي تستعمل مخدرات فكرية لتنويم الشعوب واستحمارها. وفضح هشاشة النظام العالمي ونفاقه، وأن مبدأه الوحيد هو الكيل بمكيالين وعنصرية الغرب الأبيض. وعرى المنظمات الدولية الرسمية من الأمم المتحدة إلى محكمة الجنايات، وأظهر حقيقتها في كونها مؤسسات وظيفية لتحقيق مصالح الغرب وضمان نفوذه وهيمنته لا غير، وفتح نقاشا حادا حول واقع النظام العالمي وجغرافيا الفكر البشري حاليا. وغير نظرة وفكر قطاعات هائلة من الشعوب الغربية وخاصة الأجيال الشابة حول قيمهم ودولهم والآخر... وسيكون لتداعيات كل هذا آثارا كبيرة في المدى القريب.
وأما الأمنية، فالكيان الهمجي هو عبارة عن ثكنة غربية متقدمة في البلاد العربية، قامت على منطق القوة، وتستمر بالقوة وفقط، ولا شرعية قيمية ولا فكرية ولا تاريخية ولا قانونية لها، وأساس بقائها هو التفوق الأمني والعسكري في المنطقة، وجاء الطوفان المبارك فألغى المعادلة الأمنية التي يقوم عليه الكيان كلية، وسقطت كل الداعيات الصهيونية الغربية عن واحة الأمن في المنطقة، وعن الجيش الذي لا يقهر، وعن صناعة السلاح المتفوقة، وعن سياسة الردع... إلخ، فقد استقر في أذهان كل الناس بما فيهم إرهابيو الكيان من جنرالات وسياسيين أنه لا أمن بعد الطوفان، ومرّغ شباب القسام وإخوانهم وجوه ورؤوس القوة العسكرية الصهيونية في الوحل، فلا قبة حديدية ولا ميركفاه ولا هم يحزنون، وأكثر من ذلك أظهروا تفوقا أسطوريا على الجيش النظامي الممول والمدعوم من الدول الغربية وبعض الدول العربية تكتيكيا واستراتيجيا، وإعلاميا فقد أهدوهم آلاف الفيديوهات التي توثق ذلهم العسكري أمام رجال الله. ومن أهم نتائج هذا أن الهجرة الاستيطانية ستتوقف، بل ستتزايد الهجرة العكسية مما سيضعف الكيان ويدمره تدريجيا، إضافة إلى الانهيار الاقتصادي الوشيك، بسبب هروب الأموال، والمقاطعة العالمية لمنتجات المستوطنات، ونقص اليد العاملة بسبب تجنيد جنود الاحتياط وهروب اليد العاملة الأجنبية والتحفظ على عمل الفلسطينيين... إلخ.
وأما الديموغرافية، فالكيان الإرهابي في حقيقته معادلة ديموغرافية، فهو احتلال استيطاني، قائم أساسا على إحلال الجماعات الصهيونية الغربية، وبعض الجماعات اليهودية مكان الشعب الفلسطيني، ولن يتحقق ذلك إلا بتفوق الصهاينة عدديا على العرب الفلسطينيين، وهذا ما جعل سياسته الإرهابية قائمة من أول يوم على التهجير والإبادة بالموازاة مع هجرة الصهاينة لفلسطين، ولكن هذا المشروع في أزمة منذ عقود، والسبب أن أغلب اليهود يفضلون الهجرة إلى أمريكا والغرب عموما للفرص الرأسمالية المتوفرة فيها، وأيضا لنضوب الجيوب التي يمكن تهجيرها إلى فلسطين، ومعدلات الولادة بين الصهاينة منخفضة جدا بسبب ارتفاع معدلات الإلحاد والعلمنة في الكيان، فالصهاينة هم غربيون قبل كل شيء، وكذلك بسبب النمو الديموغرافي العالي للفلسطينيين، حيث بقي مقاربا لعدد الصهاينة رغم كل سياسات الإبادة والتهجير والإبعاد؛ ولهذا فإن من أعظم نتائج الطوفان الاستراتيجية أنه انهى هجرة الصهاينة إلى فلسطين، بل فعّل ونشّط الهجرة العكسية، فقد هاجر الآلاف من الصهاينة منذ بدء الحرب، ولن يعودوا، فأغلبية الصهاينة في فلسطين هو من مزدوجي الجنسية، بل فيهم من هو مثلثها ومربعها. وهذا يعني تفوق العرب عدديا، أي فشل المشروع الصهيوني كلية؛ ولهذا فأكبر نكتة قالها الصهاينة هذه الأيام هي نكتة إسرائيل الكبرى، هذا الحلم الوهمي، الذي يستحيل تحقيقه أبدا؛ لأن العنصر البشري لتحقيقه يستحيل توفره، فالصهاينة في ورطة كبيرة مع غزة وفلسطين التاريخية، فأنى لهم السيطرة على كل تلك المساحات، وهم يتناقصون أمام الفلسطينيين، فكيف يكون حالهم بضم شعوب عربية أخرى!.
إن الصهاينة على يقين أن نهايتهم قد أزفت، وكل ما يقومون به هو فعل المستحيل لتأخيرها فقط، وأدل دليل على يأسهم هو همجيتهم التي بلغت أوجها، فهو فعل يأس لا حلول أمامه إلا الإمعان في طريق الإجرام الذي لا يحسن سواه. وقد ضربه الطوفان ضربة قاتلة على رأسه وآثارها لا تنفك تظهر تدريجيا حتى تحين نهايته: {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين}.
الخبر
04/09/2025 - 00:24
الخبر
04/09/2025 - 00:24
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال