يصرح القس الشهير صمويل زويمر بكلام واضح لا لبس فيه يبين فيه أهداف التبشير وغاياته، فيقول: ”لا ينبغي للمبشر المسيحي أن يفشل أو ييأس ويقنط، عندما يرى أن مساعيه لم تثمر في جلب كثير من المسلمين إلى المسيحية، لكن يكفي جعل الإسلام يخسر مسلمين بذبذبة بعضهم. عندما تذبذب مسلما، وتجعل الإسلام يخسره، تعتبر ناجحا يا أيها المبشر المسيحي، يكفي أن تذبذبه ولو لم يصبح هـذا المسلم مسيحيا”.
فالهدف واضح والغاية بينة، وقد يعجب بعض الناس حين يسمع مثل هذا الكلام من مثل هذا القس، وربما تساءل: لماذا تصرف الكنيسة (الملايير الممليرة) على التبشير إذا لم يكن الهدف هو كسب نصارى جدد؟، ولماذا يتعب ويشقى المبشرون والمبشرات ويتركون هنيء العيش والأهل والوطن إذا لم تكن النتيجة هي تنصّر عدد من المسلمين؟.
لكن الحقيقة هي ما قاله زويمر، فهم يعرفون جيدا مهمتهم، ويعرفون ماذا يريدون، وهم على يقين أن قوة المسلم في يقينه، وصدق إيمانه، وكلما ضعف إيمانه، واهتزّ يقينه كان ضعيفا، وسهل التغلب عليه، وتيسر التحكم فيه، كما هو حال كثير من المسلمين منذ عقود، بل قرون.
إن العيش في التذبذب، هو أخو الموت، فمن يعش في ريب وشك، مذبذب الحال، يكن في مَوات، خائر العزم، ضعيف الإرادة، فائِل الرأي، قليل العمل، ضئيل الإنجاز، وهذه حال دهي من أسوأ أحوال الإنسان؛ ولهذا وصف الله تعالى بها أرذل خلقه، فقال سبحانه في وصف المنافقين: {مُّذَبذَبِينَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يُضلِلِ اللّه فلن تجد له سبيلا}، يقول سيد قطب رحمه الله: ”وموقف الذبذبة، والأرجحة، والاهتزاز، وعدم الاستقرار... موقف لا يثير إلا الاحتقار والاشمئزاز.. كما أنه يوحي بضعف المنافقين الذاتي، هذا الضعف الذي يجعلهم غير قادرين على موقف حاسم هنا أو هناك.. مع هؤلاء أو هؤلاء”، وللأسف الشديد أن يصير حال كثير من المسلمين الصادقين في إسلامهم شبيها في التذبذب بحال هؤلاء المنافقين، ولا يليق بالمسلم أن يكون فيه من شبه المنافقين السلوكي شيئا، ولو يسيرا.
والحق، أن هذا التذبذب الذي أصيب به جماهير من المسلمين لم يأت من فراغ، ولم ينتج عن غير سبب، بل هو نتيجة أسباب عدة، إذ كل ظاهرة إنسانية معقدة هي نتيجة مجموعة أسباب معقدة بلا ريب، وإذا لم يسمح المجال المتاح تتبعها كلها فلا بأس بالتنبيه على سبب قد يغفل عنه الناظرون، ولا ينتبه له المهتمون، مع ظهوره وخطورته، وهو حملات التشكيك ونشر الريب، وهي حملات منظمة ومخطط لها، وترصد لها ميزانيات، وتوضع لها استراتيجيات وتعقد لها المؤتمرات، حال التبشير تماما، ولا هدف لها إلا زعزعة المسلم ودفعه دفعا لدائرة الشك والريب في كل شيء، حتى يكون مذبذبا، مهتزا، مرتابا، بلا عزم ولا إرادة، مترددا يُقدِم ثم يحجِم، ويثور ثم يخمد، ويصعد ثم ينزل، كحال المنافقين: {وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}.
والذي تولى كِبر هذا تيران متوازيان، لكنهما متعاونان على إدخال الأمة في دائرة الريب والتردد، تيار يتلبس بلباس الدين والسلف، وتيار لا ديني يتلبس بلباس الحداثة والتغريب؛ ولهذا هما متوازيان إذ يظهر أنهما متنافران مختلفان، وحقيقة الحال أنهما يحققان الهدف ذاته بخطط وطرق مختلفة، فالتيار الديني آثار الشك حول كل القضايا وحول كل العلماء، فمدارس العقائد الإسلامية ومذاهبها متهمة بالضلال، ومذاهب الفقه متهمة بالتعصب والابتداع، ومدارس التزكية والتصوف كلها متهمة بالانحراف والشركيات، والجماعات الدعوية والإصلاحية متهمة بكل ذلك. وهكذا ما من عالم من علماء الدين إلا وشُهر به، ونشرت أخطاءه في المشارق والمغارب، وحذّر منه... حتى صار المسلم المعاصر يشك في كل ذلك، ولا يستطيع أن يصفي رأيه ورؤيته، ودخل في دوامة الريب والشك والتردد، فما عاد يثق في عالم ولا داعية، ولا فرقة ولا جماعة ولا مذهب، بل وصلت غاشية الشك حتى لأشرف المسلمين من المجاهدين، الذائدين عن حياض الأمة ومقدساتها، وأعراضهم وبلادهم ومسجدنا الأقصى. وفي المقابل آثار التيار الحداثي التغريبي الشك حول مقومات الأمة كلها، فآثاروا الشكوك والشبهات حول الكتاب والسنة مرددين أقوال المستشرقين كالببغاء عقله في أذنيه، ورفعوا شعار القراءة الجديدة، وما هي بجديدة، فلا تعدوا أن تكون تقليد قردي للمستشرقين، وخاضوا في التراث الماجد تشويها وتهديما، وزحفوا إلى تاريخ المجيد يتصيدون السقطات والأخطاء، ويشككون في رجاله العظام، يشككون في وجودهم، أو في نياتهم، أو في إنجازاتهم، وهذا ما تركوا مقوما من مقومات هويتنا إلا وكبوا عليه ركام الشبهات، حتى ينهار أو يتشوه في ناظر الناس، وصاروا طليعة لدول الاستكبار الغربي يمهدون لهم طريق الهيمنة والنفوذ. وهكذا صار المسلم محاصرا بهؤلاء وأولئك، شاكا، مرتابا، مترددا، في كل ما حوله، خائر العزم، ضعيف الإرادة، قليلة الحيلة، يتفرج على الأحداث ولا يشارك فيها، يشتكي من الفساد والظلم والاستبداد ولا يشارك في محاربتها، يحلم بحياة كريمة عزيزة ولا يبذل أي جهد لتحققها. واعٍ بحاله، فاهم لواقعه ولكنه في ريبه يتردد، إن حاول الخطو للإمام ردّه الشك والريب خطوات للوراء!، وليس هذه حال المسلم، وليس هذه حال يرضى عنها مسلم، فالله عز شأنه يقول: {فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}. وهكذا يجب أن يكون المسلم: عزم وتوكل وإقدام.
* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
الخبر
19/11/2025 - 22:33
الخبر
19/11/2025 - 22:33
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال