اسلاميات

{ولا تُؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما}

لا يخفى على أحد أهمية المال في الحياة: حياة الأفراد، وحياة الأمم، وحياة الدّول؛ لذا كان للشرع اهتمام خاص بالمال وأحكامه

  • 487
  • 3:51 دقيقة
الدكتور يوسف نواسة
الدكتور يوسف نواسة

لا يخفى على أحد أهمية المال في الحياة: حياة الأفراد، وحياة الأمم، وحياة الدّول؛ لذا كان للشرع اهتمام خاص بالمال وأحكامه، فجاءت آيات قرآنية عديدة في بيان أحكامه، حتى أن أطول آية منه هي آية المُدايَنة، كما جاءت أحاديث نبوية كثيرة تشرح هذه الأحكام وتؤكدها، وكما اهتم الشرع بكسب المال حثا عليه، وتحذيرا من المكاسب الخبيثة الحرام، اهتم كذلك بتوزيعه واقتسامه.

إن توزيع الثروة واقتسام الأموال هو الذي يثير النزاعات والصراعات والحزازات بين الناس أفرادا كانوا أو دولا؛ ولهذا وجدنا القرآن الكريم يفصل كيفية قسمة الأموال في الأنفال والغنائم، وفي الميراث والتركات، وفي الزكوات والصدقات، ولم يترك قسمتها للناس؛ لأنهم لن يتفقوا على قسمة ولا نسبة بسبب الشح المتمكن في نفوسهم، والطمع المغروز في طباعهم. هذه المقدمة الأولى.

أما المقدمة الثانية فهي حول الرياضة الاحترافية عموما، وكرة القدم الاحترافية خصوصا، فلا يخفى على أحد كذلك أن الرياضة الاحترافية صارت قطاعا اقتصاديا مهما في الغرب ثم في العالم، بلغت أرقام أعماله أرقاما خيالية، حتى أن بعض اتحاديات الكرة في بعض البلدان الأوربية ميزانيتها أكثر من ميزانية دول إفريقية مجتمعة! دعك من ميزانية الفيفا! وصار اللاعبون والمدربون يتقاضون رواتب جنونية! [وإن كان وضع اللاعبين صار مثل وضع الرقيق والعبيد قديما، فهم يباعون ويشترون، وتفرض عليهم قيود في العقود تحدد أكلهم وشربهم ونومهم وسهرهم وغير ذلك!]، إلا أن التطور الذي ينعمون به، والفراغ الذي يشقون فيه، وتنوع النشاطات الاقتصادية التي تتقوّت على كرة القدم وغيرها من الرياضات، إضافة للقوانين التي تضبط العملية، والتي جعلت النشاطات الرياضية محركا من محركات الدورة الاقتصادية، جعلت الناس لا يهتمون بسخافة هذا الوضع، ففي الأخير حضارتهم مادية بحتة، ومن أجل الحصول على المال افعل ما تشاء!

وليس هذا غريبا في حضارة مادية قاسية انهزمت فيها القيم وانقلبت الموازين، وصار قطاع الترفيه: السينما، الغناء، الرياضة، وكرة القدم خصوصا تسجل أرقاما اقتصادية خيالية رغم أنه قطاع غير منتج للثروة! أليس من السفاهة أن يتقاضى ممثل ملايين الدولارات [ما يعادل آلاف المليارات عندنا] مقابل فيلم ترفيهي! أليس من السفاهة أن يتقاضى مغني أو مغنية ملايين الدولارات مقابل حفل واحد!، أليس من السفاهة أن يتقاضى لاعب أو لاعبة ملايين الدولارات مقابل لعب مباراة أو عدة مباريات! ماذا ينتج هؤلاء؟ وماذا يقدمون للبشرية؟، وماذا يقدمون لمجتمعاتهم؟ وما هي الثروة التي يزيدون رصيدها؟

قد يتعجّب البعض من هذا الكلام، وقد لا يعجبه؛ لأنه مخالف لمَا شاع بين النّاس من غير نكير، ولكن أليس من الواجب علينا النّظر إلى هذا الموضوع بعيدًا عن تأثير الإعلام والإشهار الّذي يغرس في عقولنا ونفوسنا وضمائرنا تقبّل هذا الوضع الغريب السّفيه!
لستُ ضدّ الفنون ولا ضدّ الرياضة، ولا يوجد عاقل سويّ يعادي الفنون والرياضة، ولكنّي ضدّ التّوحّش الرأسماليّ المادي الاستغلالي! لأنّ ربع الميزانيات المرصودة للرياضات الاحترافية كافية لتوفير فضاءات ومجالات رياضية للجميع، وكافية لوضع برامج ومخطّطات لجعل أكبر عدد من النّاس يمارس الرياضة، وكافية لتوفير الفرص لكثير من المواهب الفنية والرياضية للبروز والانطلاق بعيدًا عن الاحتكار والاستغلال، أليس تحقيق شعار الرياضة للجميع خيرٌ من صرف ميزانيات كبيرة يمارس بها بعض (المحترفين) الرياضة ويتفرّج باقي الشّعب عليهم! وهنا لا بدّ أن نقف طويلاً مع قول الحقّ سبحانه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا}، قال الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله: ”قِيام الشّيء وقَوامه: ما يستقيم به ويحفظ ويثبّت، أي جعلها قوام معايشكم ومصالحكم. والسّفهاء هم المسرفون المبذّرون لها؛ لصغر سنّهم دون الرّشد أو لفساد أخلاقهم وضعف عقولهم، وقال تعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يُقْتِرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} الإسراف: التّبذير والإفراط”. وصرف الميزانيات الكبيرة على اللّهو واللّعب من السّفه لا شكّ ولا ريب.

وقال الشّيخ سيّد طنطاوي رحمه الله مبيّنا أنّ الخطاب في الآية عام، مُنبهًا إلى معنى جليل في الآية يؤكّد مرادنا من هذه الكلمة، قال: ”والّذي نراه أنّ الخطاب في الآية الكريمة لجميع المكلّفين حاكمين ومحكومين ليأخذ كلّ مَن يصلح لهذا الحكم حظّه من الامتثال. وأنّ المراد بالسّفهاء كلّ مَن لا يحسن المحافظة على ماله لصغره، أو لضعف عقله، أو لسوء تصرّفاته سواء أكان من اليتامى أم من غيرهم لأنّ التّعميم في الخطاب وفي الألفاظ -عند عدم وجود المخصّص- أولى، لأنّه أوفر معنى، وأوسع تشريعًا. وفي إضافة الأموال إلى جميع المخاطبين المكلّفين من المسلمين إشارة بديعة إلى أنّ المال المتداول بينهم هو حقّ لمالكيه المختصّين به في ظاهر الأمر، ولكنّه عند التّأمّل تلوح فيه حقوق الأمّة جمعاء؛ لأنّ وضعه في المواضع الّتي أمر الله بها منفعة للأمّة كلّها، وفي وضعه في المواضع الّتي نهى الله عنها مضرّة بالأمّة كلّها، وتعاليم الإسلام الّتي تجعل المسلمين جميعًا أمّة واحدة متكافلة متراحمة تعتبر مصلحة كلّ فرد من أفرادها عين مصلحة الآخرين”.
ومن الإضرار بمصالح الأمّة هذا الإسراف في الأموال في كرة القدم، في أجور اللاعبين، وأجور المدربين، فإذا كان من المرفوض العجيب الغريب السّفيه أن يتقاضى مدرب أو لاعب أكثر من الطّبيب والقاضي والإمام والأستاذ...! أليس من المضحك (ولكنّه ضحك كالبكاء!) أن يتقاضى لاعب محترف أكثر من المدير والوزير! وأن يتقاضى المدرب الوطني راتبًا أكبر من راتب رئيس الجمهورية! حقّا إنّ السّاكت عن كرة القدم شيطان أخرس!!!