أكدت الناشطة الحقوقية، والمحامية الفرنسية- الجزائرية، الأستاذة خديجة عودية، في حوار مع "الخبر"، أن تأسيسها في شكوى رفعتها ضد وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو هو بمثابة اختبار حقيقي لصلابة دولة القانون الفرنسية، مشيرة إلى أن رفع الدعوى في هذ الحالة (قضية الحال) يصبح فعلاً مقاوماً. ولفتت الأستاذة عودية إلى أنه يمكن لهذه الدعوى أن تشكّل سابقة، وتشجّع فعاليات المجتمع المدني على نقل خطابات الكراهية إلى ساحات القضاء،مشدّدة على أنه يجب على القانون أن يستعيد مكانته كسلاح بيد المواطن في مواجهة الوصم، وهو أمر ضروري كي لا يُختطف النقاش الديمقراطي بالشتيمة والتمييز.
• تأسستم في حق جمعيات ورفعتم دعوى ضد وزير الداخلية برونو روتايو، وهي خطوة غير عادية في المشهد الفرنسي.. هل تتوقعون أن القضاء الفرنسي سيتعامل مع الدعوى باستقلالية؟ أم أن صفة روتايو كوزير ستؤثر على مسار العدالة؟
من الناحية القانونية، ينصّ الدستور الفرنسي (المادة 64) على استقلالية القضاء، لكن في الواقع العملي، فإن قرب الوزير من السلطة التنفيذية يثير دوماً مخاوف من عدالة "حذرة" أو "مترددة".إنها المواجهة الأبدية بين القانون والسلطة: يجب على العدالة أن تؤكد أن لا أحد فوق القانون، حتى الوزير نفسه. إن رفع الدعوى في هذه الحالة هو بمثابة اختبار حقيقي لصلابة دولة القانون الفرنسية.
•روتايو صرّح بأن "الحجاب رمز أبارتايد"، وأن "الهجرة ليست فرصة لفرنسا"، و"إنهم مسلمون وسود".. برأيكِم هل هذه تصريحات سياسية للاستهلاك الانتخابي؟ أم تعبير عن عقيدة متجذّرة لدى اليمين المتطرف ودخلت الآن مؤسسات الدولة الفرنسية؟
يمكن تحليل هذه التصريحات وادراجها كخطاب انتخابي شعبوي، لكن تكرارها وحدّتها يكشفان عن أيديولوجيا مترسخة انتقلت من هامش اليمين المتطرف إلى قلب المؤسسة الرسمية.
وهذا ما يترجم عملياً مقولة حنّة آرندت عن "تفاهة الشر": فتصريحات كانت تُعتبر هامشية باتت اليوم خطاباً طبيعياً في أعلى هرم الدولة.
• ما مدى صعوبة رفع دعوى ضد شخصية سياسية في موقع قوة؟ وهل واجهتم محاولات للضغط أو التشويش على مساركم ونشاطكم كحقوقية؟
وفقاً للقانون الفرنسي والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، فإن اللجوء إلى القضاء حق أساسي يضمن عدالة المحاكمة. صحيح أن محكمة العدل للجمهورية (CJR) هي الهيئة المختصة بمحاكمة أعضاء الحكومة، لكن العراقيل تبقى واقعية: إعلامية، سياسية وأحياناً قضائية.
رفع دعوى ضد وزير يعني مواجهة رجل وأيضاً رمزية دولة تحمي ممثليها.لذلك يصبح رفع الدعوى فعلاً مقاوماً: تأكيداً على أن المواطن، ولو كان في موقع الأقلية، يملك حق الطعن في وجه السلطة.
إن النضال من أجل احترام مبادئ الأخوة واجب على جميع الشعوب، فالأخوة ليست مجرد قيمة أخلاقية بل التزام تفرضه وتحميه المواثيق الدولية. ومع الأسف، فإن كل من يرفع رأسه لهذا النضال سيثير الكراهية والرفض، كما علمنا التاريخ.
• هل ترين أن هذه القضية قد تفتح الباب لرفع دعاوى أخرى من جانب جمعيات مدنية أو أفراد ضد خطابات الكراهية السياسية في فرنسا؟
بالفعل، يمكن لهذه الدعوى أن تشكّل سابقة، وتشجع فعاليات المجتمع المدني على نقل خطابات الكراهية إلى ساحات القضاء. فالقانون يجب أن يستعيد مكانته كسلاح بيد المواطن في مواجهة الوصم، وهو أمر ضروري كي لا يُختطف النقاش الديمقراطي بالشتيمة والتمييز.
•غالبًا ما يتم تبرير تصريحات من هذا النوع تحت غطاء "حرية التعبير". برأيكم، أين تنتهي حرية التعبير وتبدأ جريمة التحريض على الكراهية؟
ترسم الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والقانون الفرنسي يرسمان حدوداً واضحة في هذا الشأن: حرية التعبير تنتهي عند بدء خطاب الكراهية والتحريض على التمييز.
من الناحية الفلسفية، إنها معضلة جون ستيوارت ميل: الحرية مطلقة ما لم تضر بالغير. ووصف الحجاب بـ"الفصل العنصري" وربط المسلمين والسود بالخطر هو وصم يهدد ملايين المواطنين.
• هل تعتقدون أن القضاء الفرنسي يطبق نفس المعايير عندما يتعلق الأمر بمسلمين أو مهاجرين مقارنة بتصريحات تستهدف مجموعات أخرى"
التجربة أظهرت أن بعض التصريحات، خاصة المعادية للسامية، تُعاقَب بشدة، بينما غالباً ما يُتعامل مع الإسلاموفوبيا بتساهل أو بنسبية. هذا التدرج في الحماية يضعف بشكل خطير مبدأ المساواة أمام القانون.
• الجالية المسلمة في فرنسا تعيش في ظل ضغوط سياسية وإعلامية متواصلة. من خلال تجربتكم كمحامية، ما هي أبرز القضايا التي تعكس هذه الضغوط أمام القضاء؟
أذكر حلّ الجمعيات الإسلامية، والمداهمات التعسفية بعد عام 2015، وكذلك إقصاء الأمهات المحجبات من مرافقة أبنائهن في الرحلات المدرسية. كل هذه الوقائع تكشف عن شبهة مؤسساتية تلاحق شريحة من المواطنين وتجعلها في موقع الدفاع الدائم عن نفسها.
• هل ترون أن المسلمين في فرنسا أصبحوا كبش فداء للسياسات الانتخابية؟
من الواضح أن الخطاب السياسي يرسم صورة المسلم كـ"الآخر الداخلي" المسؤول عن الأزمات والآلام الاجتماعية. إنها الآلية القديمة لكبش الفداء التي وصفها رينيه جيرار: تعيين مجموعة لتوجيه المخاوف الجماعية.
• في حال كسبتم هذه القضية، ما الذي سيتغير فعليًا بالنسبة لمسلمي الجمهورية الفرنسية؟ هل ستكون مجرد انتصار رمزي أم يمكن أن تؤثر في السياسات العامة؟
الانتصار في هذه القضية سيكون رمزياً من الناحية القانونية، لكن رمزيته كبيرة جدا: الانتصار سيعيد الثقة للمواطنين المميز ضدهم في مؤسسات الدولة.
كما قد يرغم السياسيين على ضبط خطابهم، الأمر الذي ينعكس بشكل غير مباشر على الممارسات والسياسات العامة.
•نعود إلى مسيرتكم وتجربتكم.. كنتم أول محامية من أصول مغاربية تتقلدين منصب نقيب المحامين في نيم.. كيف أثّر ذلك في نظرة المجتمع القانوني الفرنسي لكِ؟
لقد كان ذلك دليلاً على أن مهنة المحاماة قادرة على تجاوز كل أشكال التمييز والتحيز. لقد رآها البعض خطوة تقدمية، فيما اعتبرها آخرون شذوذاً. كانت تجربة محاطة بالوحدة، إذ إن البروز يثير الاحترام كما يثير الرفض في آن واحد.
• هل تعرّضتِ بشكل شخصي لمواقف عنصرية خلال مساركِ المهني؟ وكيف تعاملتِ معها؟
نعم، وإن كان ذلك بشكل محدود. تعاملت معها بتحويلها إلى طاقة ايجابية للنضال. كل هجوم كان سبباً إضافياً للدفاع عن المساواة والكرامة. إنه ما يسميه نيتشه"تحويل المحنة إلى قوة"
• قضية الأخوين محمد وعبد القادر إسماعيل المنحدرين من ولاية غليزان من تهمة القتل خلال فترة التسعينيات، وهما من أفراد الدفاع الذاتي وفرق مكافحة الإرهاب، التي كنتِ جزءًا منها اعتُبرت معركة قضائية ضد "ماكينة قوية".. هل ترين تشابها بينها وبين معركتكِ اليوم ضد روتايو؟
في الحالتين، كان الأمر مواجهة آلة دولة وحقيقة رسمية ضحّت بأفراد على مذبح التوظيف السياسي للقضاء.المعركة هي ذاتها: التذكير بأن العدالة يجب أن تحمي، لا أن تخدم رواية سياسية.
• من الواضح أن مساركِ يتجاوز مجرد المحاماة إلى الدفاع عن قضية وهوية.. هل تعتبرين نفسكِ صوتًا للمهمّشين؟
أعتبر نفسي محامية بالمعنى الكامل: أنقل صوت من لا يُسمع، وأترجم معاناته إلى لغة قانونية. أكون، باختصار، حلقة وصل بين المواطن المهمش والعدالة.
•ما هي الرسالة التي توجهينها للمهاجرين والمسلمين في فرنسا بعد رفع هذه الدعوى؟
أقول هنا: القانون سلاحكم. رفض الصمت هو استعادة للكرامة المواطنة. رفع الدعوى ليس مجرد فعل فردي، بل هو تأكيد جماعي على أن الجمهورية لكم أنتم أيضاً.
• إذا خسرتم قضيتكم أمام القضاء الفرنسي، هل ستلجأون فعلاً إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان؟
من دون تردد. هذه المعركة يجب أن تستمر حتى النهاية. ففرنسا ليست معزولة، بل تنتمي إلى نظام قانوني أوروبي يمكن أن يذكّرها بالتزاماتها الكونية في مجال حقوق الإنسان، تلك الالتزامات التي تجعل من الكرامة الإنسانية حقاً مقدساً لا يُمس.

التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال