الوطن

"المجازر تحمّل فرنسا مسؤولية تاريخية وقانونية كبيرة"

حوار مع البروفيسور والمؤرخ سفيان لوصيف، أستاذ التاريخ المعاصر جامعة سطيف 2، وأحد أبرز المختصين في تاريخ الجزائر المعاصر، والباحث المتعمق في ملف مجازر 8 ماي 1945.

  • 128
  • 7:39 دقيقة
صورة: ح.م
صورة: ح.م

حاوره: عبد الرزاق ضيفي

يرى البروفيسور والمؤرخ سفيان لوصيف، أستاذ التاريخ المعاصر جامعة سطيف 2، وأحد أبرز المختصين في تاريخ الجزائر المعاصر، والباحث المتعمق في ملف مجازر 8 ماي 1945، يرى أن "الذاكرة ليست مجرد أرشيف محفوظ، بل فضاء مفتوح للصراع والتفاوض، يتطلب معالجة هادئة وواعية، قائمة على الاعتراف المتبادل والرغبة الصادقة في التفاهم التاريخي"، مؤكدا في حوار لـ "الخبر" أنه "في سياق مجازر 8 ماي 1945، تتحمّل فرنسا مسؤولية تاريخية وقانونية كبيرة، حيث أن تلك الأحداث تشكل واحدة من أبشع مظاهر القمع الاستعماري في تاريخ الجزائر"، مشيرا إلى أن "هذه المجازر تعتبر مثالًا صارخًا على العنف الاستعماري الفرنسي الذي لا يزال يؤثر في الذاكرة الجماعية للجزائريين حتى اليوم".

في سياق العلاقة الجزائرية - الفرنسية، كيف تُعرّف الذاكرة؟ وهل هي مجرد استحضار للماضي، أم أنها أداة لصياغة الحاضر وصراع حول المصالح؟

. الذاكرة في سياق التاريخ الاستعماري، لا تفهم فقط بوصفها استرجاعا بسيطا لأحداث الماضي، بل هي بناء اجتماعي وثقافي وسياسي يتجاوز حدود الفرد ليشمل الجماعة الوطنية، فالذاكرة ليست مجرد تذكّر، بل هي عملية اختيار وانتقاء وتفسير للأحداث، تساهم في تشكيل هوية الشعوب وفي فهمها لذاتها.

في الحالة الجزائرية - الفرنسية، تعدّ الذاكرة إحدى أكثر القضايا حساسية، لأنها تتعلق بتاريخ طويل من العنف والاستغلال والمقاومة. هناك ذاكرة جماعية جزائرية تعيد باستمرار إنتاج سردية المعاناة والمقاومة من أجل الاستقلال، في مقابل ذاكرة فرنسية مترددة تتأرجح بين الاعتراف والتجاهل، وبين الحنين الكولونيالي والنقد الذاتي. الذاكرة هنا تتحول إلى رهان سياسي وأخلاقي، لأنها توظّف في الحاضر لتبرير مواقف أو لرسم سياسات، سواء أتعلق الأمر بالمطالب الجزائرية باسترجاع الأرشيف والاعتذار، أو بالمواقف الفرنسية التي تخشى من فتح الجراح.

وإذا كانت الذاكرة تبدأ فردية؛ فإنها سرعان ما تتحول إلى جماعية، عندما تتبناها الدولة أو تروَّج في المدرسة، في الإعلام، أو تخلّد في النصب التذكارية. فمثلاً، ذاكرة مجازر 8 ماي 1945 أو التعذيب في معركة الجزائر، لم تعد مجرد شهادات شخصية، بل أصبحت جزءًا من الهوية الوطنية الجزائرية، بينما ما زالت تثير انقسامًا داخل المجتمع الفرنسي.

وبالتالي، فالذاكرة ليست مجرد أرشيف محفوظ، بل فضاء مفتوح للصراع والتفاوض، يتطلب معالجة هادئة وواعية، قائمة على الاعتراف المتبادل والرغبة الصادقة في التفاهم التاريخي. في سياق مجازر 8 ماي 1945؛ تتحمّل فرنسا مسؤولية تاريخية وقانونية كبيرة، حيث أن تلك الأحداث تشكل واحدة من أبشع مظاهر القمع الاستعماري في تاريخ الجزائر؛ فقد ارتكبت القوات الاستعمارية مجزرة مروعة ضد الشعب الجزائري في مدن سطيف، وڤالمة، وخراطة، حيث تم قتل عشرات الآلاف من المدنيين العزل بشكل ممنهج، إثر الاحتجاجات الشعبية السلمية التي اندلعت في تلك المدن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

تعتبر من المختصين الذين اشتغلوا طويلاً على دراسة مجازر 8 ماي 1945، ما الذي يجعلك تركز على هذه المجازر تحديدًا؟ وكيف ترى تأثيرها على الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري؟

. منذ سنوات عديدة قمت بالتركيز على دراسة مجازر 8 ماي 1945؛ كونها نقطة تحول حاسمة في التاريخ الجزائري الحديث، هذه المجازر تعتبر مثالًا صارخًا على العنف الاستعماري الفرنسي الذي لا يزال يؤثر في الذاكرة الجماعية للجزائريين حتى اليوم.

تكمن أهمية هذا الموضوع في أنه لا يتعلق فقط بمجزرة عادية، بل بحادثة تظهر التفاوت الكبير في العلاقات بين المستعمر والمستعمرين، والممارسة الوحشية للقوة من قبل السلطات الاستعمارية ضد المدنيين الأبرياء الذين خرجوا للتعبير عن مطالبهم الإنسانية البسيطة. دراستي لهذه المجازر كانت تهدف إلى تسليط الضوء على حجم الانتهاكات التي تعرض لها الشعب الجزائري، وكيف أن هذه المجازر كانت بمثابة نقطة انطلاق لحركة المقاومة الوطنية التي تطورت بعد ذلك، لتفضي إلى حرب التحرير الجزائرية.

كما أعتقد أن هذه الأحداث هي بمثابة حلقة وصل بين الاحتلال الكولونيالي، ومن ثم مرحلة الاستقلال التي كانت تترقب هذا الزمان.. ومن خلال عملي البحثي الطويل، وجدت أن المجزرة ليست فقط موضوعًا تاريخيًا؛ بل هي قضية ذاكرة جماعية تشكّل جزءًا من الهوية الوطنية الجزائرية. لا يزال الشعب الجزائري يحمل هذه الذاكرة كجزء أساسي من تاريخ معاناته، وهي لا تزال تؤثر في كيفية إدراك الجزائريين لتاريخهم ومواقفهم الحالية تجاه الاستعمار.

في الوقت نفسه من المهم أن نذكر أن هذه المجزرة تفتح ملفًا حساسًا مع فرنسا، التي ما زالت ترفض الاعتراف الكامل بمسؤوليتها القانونية والأخلاقية في هذه المجازر. هذا الأمر يعيق المصالحة الحقيقية بين البلدين، ويجعل الذاكرة محط صراع مستمر.

أنت مختص في موضوع مجازر 8 ماي 1945، ومؤرخ يعمل على توثيق هذا الحدث التاريخي الأليم.. كيف يمكن أن تصف تجربتك الشخصية في هذا المجال، خاصة وأنك من منطقة تعرضت للإبادة وكان جدك مسجونًا مع أشقائه في تلك الفترة؟

. أنا أنحدر من منطقة عموشة التي تعرضت للإبادة خلال مجازر 8 ماي 1945، وأجدادي كانوا من بين الذين سُجنوا في تلك الفترة، عشت في بيئة مليئة بالذكريات الجريحة، حيث كان من الطبيعي أن أسمع عن معاناة الأجيال السابقة ممن عاشوا تلك الأحداث. بصفتي ابنا لهذه المنطقة، نشأت في وسط ذاكرة جماعية عميقة تحكي قصة الألم والقتال من أجل الحرية. ما جعلني أركز بشكل خاص على هذا الموضوع؛ هو التجربة الشخصية التي عشتها مع الناجين من المجزرة، أولئك الذين حكم عليهم بالمؤبد، وعشت معهم جزءًا من معاناتهم اليومية.

لقد كانوا يحملون ذاكرة مؤلمة وجرحًا عميقًا لم يلتئم بعد.. ولأنني كنت دائمًا أستمع إلى شهاداتهم، قررت توثيق هذه القصص، لمشاركة معاناة هؤلاء الرجال الذين عايشوا تلك الفترة. ومن خلال تلك الشهادات الحية، وجدت نفسي مدفوعًا أكثر للبحث في الأرشيفات التاريخية لتوثيق الحقائق المُرّة التي تعرض لها الشعب الجزائري.

إن هذه المجازر تمثل أكثر من مجرد حادثة تاريخية؛ إنها جزء من الذاكرة الوطنية التي تشكل هوية كل جزائري اليوم.. ورغم مرور الوقت، فإن آثارها لا تزال واضحة في الوعي الجماعي، إنّ العمل على هذه الشهادات وتوثيقها كان مهمًا بالنسبة لي كجزء من عملية إعادة الحق إلى هؤلاء الذين فقدوا حياتهم أو حرياتهم في تلك الفترة، وأيضًا في فتح المجال لفهم أعمق لهذا الفصل المؤلم من تاريخنا.

كيف تقيّمون حصيلة ما كُتب من طرف المؤرخين والباحثين الجزائريين حول هذه المجازر؟ وهل ترون أن الذاكرة الوطنية أنصفت هذا الحدث كما يجب؟

. بالفعل، إذا ما استعرضنا حصيلة ما كُتب حول مجازر 8 ماي 1945 من طرف المؤرخين الجزائريين، نلاحظ أن هذا الحدث رغم فظاعته ظل لسنوات طويلة مغيبًا نسبيًا في الكتابات التاريخية. فعلى مدى عقود، لم يكن هناك سوى بعض المقالات والدراسات المتفرقة التي تناولت المجازر، وغالبًا ما كانت تعالج الحدث من زوايا صحفية أو نضالية أكثر منها أكاديمية صارمة.

هذا التراجع في الإنتاج البحثي يمكن تفسيره بعدة عوامل، من بينها القيود التي فرضها غياب الوصول الكامل إلى الأرشيف في وقت سابق، وأيضًا طغيان الطابع الاحتفالي على المعالجة التاريخية العلمية. لكن مع بداية الألفية الجديدة ومع ظهور جيل جديد من الباحثين والمؤرخين الجزائريين، بدأت تتغير الصورة، هؤلاء الباحثون بعضهم تلقّى تكوينًا أكاديميًا متقدمًا في الخارج أو في جامعات جزائرية متفتحة على مناهج البحث الحديثة، اعتمدوا على أدوات جديدة في التحليل، وعلى الوصول التدريجي إلى أرشيفات محلية ودولية.

كما اهتموا كثيرًا بجمع الشهادات الشفوية من الناجين وذوي الضحايا، نتيجة لذلك بدأنا نشهد ظهور دراسات أكثر عمقًا وتوازنًا، تُعالج الحدث في سياقه السياسي والاجتماعي والدولي، وتُقارب المجازر من منظور تاريخ الذاكرة، وتربطها بملف الاستعمار ككل.

اليوم، يمكن القول إن هناك تحولًا تدريجيًا نحو استعادة هذا الحدث في الذاكرة الوطنية والعلمية، وإن كان الطريق لا يزال طويلًا نحو كتابة تاريخ شامل لمجازر 8 ماي 1945 يرقى إلى حجم الفاجعة التي عاشها الشعب الجزائري.

عرفت الكتابات التاريخية لدى عدد من المؤرخين الفرنسيين تحوّلاً ملفتاً من كتابات كانت تتماهى مع المشروع الاستعماري إلى مقاربات أكثر نقداً، خاصة فيما يتعلق بمجازر 8 ماي 1945.. كيف تفسرون هذا التطور في مواقف المؤرخين؟ وهل هو ناتج عن مراجعة ذاتية داخل الحقل الأكاديمي الفرنسي؟

. التحول في تناول مجازر 8 ماي 1945 من طرف المؤرخين الفرنسيين؛ يعود أساسًا إلى مراجعات عميقة داخل الحقل التاريخي نفسه. جيل المؤرخين الأوائل كان يعمل ضمن منطق الدولة الاستعمارية، إما بصمت متواطئ أو برؤية تبريرية تغلف العنف الاستعماري بخطاب "التمدين". لكن منذ نهاية القرن العشرين، برز مؤرخون مثل رفاييل بلانش، وجون لوي بلانش، أوليفيي لوكور غرانميزون... ممن بدأوا يقاربون هذه الأحداث من زاوية الضحايا، لا الفاعلين الاستعماريين. 

هذا التحول لم يكن سهلاً؛ كثير من هؤلاء المؤرخين تعرضوا لانتقادات حادة داخل الأوساط الأكاديمية الفرنسية، خاصة من التيار المحافظ الذي يرى في هذه المقاربات تهديدًا لذاكرة وطنية مؤسسة على إنكار الماضي الاستعماري. ومع ذلك؛ فإن التصميم على إعادة بناء سردية تاريخية أكثر توازنًا، أدى إلى بروز تيار جديد في كتابة التاريخ يتعامل مع مجازر 8 ماي كجريمة دولة، وليس كـ "حادث عرضي" أو "فوضى مؤقتة".

بمعنى آخر؛ نحن إزاء تطور نابع من قناعة معرفية وأخلاقية لدى مؤرخين اختاروا مواجهة الصمت والمسكوت عنه، وليس فقط استجابة لضغوط خارجية؛ وهذا ما يجعل هذا التحول داخل الحقل التاريخي الفرنسي ذا دلالة عميقة، تتجاوز حدود الجدل الأكاديمي.

وأنت تتحدث عن جيل الأمس والذاكرة، ما هو موقع الشباب اليوم من التاريخ، ومن الاستذكار لما عاشه الوطن من مآسي ومقاومة؟

. مسألة ارتباط الشباب بالتاريخ الوطني وبالذاكرة الجماعية؛ تعد من بين التحديات الكبرى في الجزائر اليوم، فجيل الأمس الذي عاش فصول المأساة والمقاومة، حمل ذاكرة حيّة، غالبًا ما كانت شفوية، يرويها الآباء والأجداد للأبناء. أما جيل اليوم، فهو يواجه خطر القطيعة مع تلك الذاكرة، خاصة في ظل هيمنة الثقافة الرقمية السريعة، وضعف حضور التاريخ الوطني في المدرسة والإعلام بشكل جذّاب وفعّال.

لكن رغم هذه التحديات، لا يمكن القول إن الشباب غائب تمامًا.. هناك فئة متزايدة من الشباب بدأت تبدي اهتمامًا بالذاكرة الوطنية، سواء من خلال مشاريع توثيقية على الإنترنت، أو من خلال الانخراط في دراسات التاريخ والعلوم الإنسانية. وهنا يأتي دور المؤرخين والمربين في ربط الماضي بالحاضر، ليس فقط عبر سرد البطولات، بل من خلال تحليل المعاناة، والسياقات، والدروس التي يمكن استخلاصها من تاريخنا، ليبقى حيًا في الوعي الجماعي. 

الذاكرة ليست حنينًا للماضي فقط، بل هي أيضًا أداة لبناء الحاضر والمستقبل. وإذا لم يتم إشراك الشباب في حوار حيّ ومفتوح مع هذه الذاكرة، فإننا نخاطر بتركها حكرًا على المناسبات الرسمية، بدل أن تكون طاقة معرفية وثقافية دافعة نحو فهم الذات الوطنية.