الوطن

حكايات أبطال لم يصل صداها للأجيال

"الخبر" تفتح النقاش في ملف الشهداء المنسيين.

  • 720
  • 12:33 دقيقة
تاريخ ثورة التحرير المجيدة، الصورة: م.ح
تاريخ ثورة التحرير المجيدة، الصورة: م.ح

وراء كل اسم منقوش على جدارية الشهداء تختفي قصة بطولة، ووراء كل تاريخ استشهاد تروى ملحمة تضحية. لقد سطرت ثورة التحرير المجيدة بأحرف من نور أسماء أبطال خالدين في ذاكرة الوطن، لكن ظل هناك رجال آخرون هم كالنجوم الخافتة في سماء الليل، تنير لكنها لا تُرى بوضوح.

هم شهداء سقطوا في دروب غير معبّدة، ورووا بدمائهم أرضا لم تعرف قبورهم، وحملوا سرّهم معهم إلى عالم الخلود. هم أولئك الذين لم تصل قصصهم إلى صفحات الكتب المدرسية، ولم تحظ وجوههم بحيّز في المتاحف، لكنّ تضحياتهم كانت الدعامة الخفية التي ارتكزت عليها معركة التحرير. لقد قدّموا كل شيء ثمنا للحرية، ثم قدّموا شيئا آخر ثمينا هو حياتهم، فتنازلوا عن المجد الشخصي كي يصنعوا مجدا جماعيا للأمة. أرواحهم تسكن كل حبّة رمل في الصحراء، وكل قطرة مطر في الشمال، وكل قبلة ريح تهب على جبال الأوراس.

تحاول "الخبر" في هذا الملف الكشف عن بعض أسماء شهداء سقطوا في ميدان الشرف دفاعا عن الجزائر ومجدها وحريتها، فعادت بشهادات عن شهداء ربما يسمع عنهم البعض للمرة الأولى، لتكون بذلك تكريما لأرواحهم الطاهرة في هذه المناسبة المباركة، مناسبة الذكرى الـ71 لاندلاع الثورة التحريرية المباركة. فهذه السطور محاولة متواضعة لإنصاف بعض هؤلاء الأبطال المنسيين، لنقول لهم إن: "الوطن لم ينساكم، وإن الحرية التي تنعم بها الأجيال اليوم هي الورقة الخضراء التي نرفعها إليكم، عرفانا بالجميل، ووفاء للعهد".

بطل ترك المجد في باريس ليكتبه بدمه في جبال بجاية.. الشهيد جرود برمضان.. أسطورة لم تُرو

قدّمت ولاية بجاية ثلة من الشهداء الأبرار، أسماء بعضهم في سجلّ التاريخ، فَعرفهم العامّة وكرّسهم الباحثون، فيما بقي آخرون شواهدَ مجهولة ترويها الذاكرة الشعبية وينتظرون من يكتب سيرتهم. وفي هذا السياق، تبرز قصة البطل الشهيد "جرود برمضان" الذي جمع بين حياة استثنائية في باريس وموت بطولي في جبال بجاية، كقصة تختزل فيها ملحمة شعب بأكمله. حاولت "الخبر" تقصي بعض المعلومات عن هذا البطل الاستثنائي، وقابلت نجله السيد برمضان الذي قال إن الشهيد البطل جرود برمضان من مواليد 15 مارس 1928 بقرية صمعون، بلدية الشميني، ناحية سيدي عيش، في ولاية بجاية. وذكر بأن والده حفظ ما تيسر من القرآن الكريم بمسجد قريته، قبل أن يدخله أبوه المدرسة الفرنسية التي غادرها بعد فترة ليساعد والده في أعمال الفلاحة بالقرية، وذلك لحاجة العائلة إليه كونه المعين لوالده الذي كان مقطوع الرجل إثر إصابته في الحرب العالمية الأولى.

وأوضح النجل أن الشهيد كان كبير عائلته التي تضم أخا وأختين، مشيراً إلى أن العائلة تنتمي إلى سجل ثوري حافل، واسترسل قائلاً: "شأنه شأن كل شباب المنطقة في تلك الفترة، هاجر والدي إلى فرنسا للعمل، حيث أتقن حرفته حتى أصبح صاحب مقهى في العاصمة باريس. كما كان شغوفاً بالرياضة، فاختار الملاكمة التي برع فيها، واشتهر خاصة بعد تتويجه بلقب البطولة الجهوية للناحية الباريسية". وأضاف: "كان لوالدي اتصالات برجال السياسة، فانخرط في حزب الشعب الجزائري ثم في حركة انتصار الحريات الديمقراطية(MTLD) . ولما كان متشبعا بالروح الوطنية والرغبة في تحرير الوطن، غادر باريس تاركا وراءه عمله الناجح ومستقبله الرياضي الواعد، ليستجيب لنداء الواجب مع اندلاع الثورة." وتابع نجل الشهيد: "في سنة 1956، انخرط والدي في صفوف جيش التحرير الوطني بناحية أغرام باقبو، وشارك في عدة معارك، منها كمين بوشبان الذي تحوّل إلى معركة ضارية استمرت ثلاثة أيام، أبلى فيها البلاء الحسن." وقال إن الشهادات التي قدّمها المجاهدون الذين عرفوا والده عن قرب، تنوّه جميعها بعظمة الرجل وشجاعته، حيث ذكر المجاهد عتومي الجودي في كتاباته التاريخية عن الثورة في الولاية الثالثة، سيرة الشهيد، كما تناول المجاهدان طواهري محند وعمار تضحياته وبطولاته.

وفي شهادة أخرى، قال المجاهد شتوح براهيم: "إن الشهيد جرود برمضان شارك في عدّة معارك وعمليات واشتباكات، منها معركة "اعمورن" بإغرام قرب أقبو، وعملية مسجد "أث صولة" قرب الشميني، وكمين "تقريت" الذي أسفر عن حرق ثلاث شاحنات للعدو، كما شارك في عملية قلب قطار قرب إغزر أمقران"، وأضاف شتوح: "كان للشهيد اتصالات عديدة بقادة الولاية الثالثة، وبالراحل العقيد عميروش على وجه الخصوص."

واستشهد البطل جرود برمضان في شهر سبتمبر 1957 عن عمر ناهز 29 ربيعا، خلال اشتباك وقع بالمكان المسمى "ثاله اقسماسن" في سمعون – الشميني. ودفن في المكان نفسه الذي سقط فيه شهيدا، بعد أن قتل أربعة جنود للعدو في معركته الأخيرة، ليختم حياته بسطر من المجد.

وختم النجل تصريحه مؤكداً أن "برمضان ينتمي إلى عائلة ثورية قدمت 34 شهيدا فداء للوطن، وهو أحد أبناء المنطقة الشجعان الذين حاربوا المستعمر حتى سقطوا شهداء في ميدان الشرف."

حكاية شهيدين طواهما النسيان في ربوع الولاية السادسة

بمناسبة الذكرى 71 للثورة التحريرية المجيدة، يستحضر الدكتور هزرشي بن جلول –جامعة الجلفة- سيرتين نضاليتين لشهيدين من المنطقة الثانية بالولاية السادسة، مؤكدا في تصريح لـ"الخبر" أن الإعلام والمنظومة التربوية ركزا على أسماء بعينها، مما أدى إلى طيّ ذكر شهداء آخرين قدموا تضحيات لا تقل أهمية.

جبال الجلفة تروي قصة بطل.. الرحلة الملحمية للشهيد بن عمران ثامر

أفاد الأستاذ هزرشي، في تصريح لـ"الخبر"، بأن الشهيد الأول هو بن عمران ثامر، المولود سنة 1931 بمنطقة القديد بولاية الجلفة. وأوضح أن الشهيد نشأ في وسط يمارس الفلاحة وتربية المواشي، حيث درس القرآن وتعلم مبادئ القراءة قبل أن ينتقل إلى مدينة الجلفة ثم الجزائر العاصمة للعمل في مصنع للزيوت.

وذكر الأستاذ هزرشي أن بن عمران انخرط لاحقا في الجيش الفرنسي وشارك في حروب الهند الصينية، وهي التجربة التي أوضح أنها أكسبته خبرة عسكرية قيّمة ودراية باستخدام الأسلحة، كما نمّت وعيه السياسي وعمّقت إحساسه الوطني. وأضاف أنه بعد انهزام فرنسا في معركة ديان بيان فو، عاد بن عمران إلى المغرب واستقر بالقنيطرة.

وأكد الدكتور هزرشي بأن الشهيد شارك بعد اندلاع الثورة التحريرية في عملية فرار جماعي من الجيش الفرنسي، وانضم إلى صفوف الثورة سنة 1955 بعد اتصاله بمسؤولي جيش التحرير الوطني في الولاية الخامسة. وشرح أنه انتقل بعد ذلك إلى منطقة القعدة في آفلو، حيث خاض عدّة معارك واشتباكات، كان من أبرزها معركة "الشوابير" التي جرت وقائعها في 3 أكتوبر 1956 وتكبّدت خلالها فرنسا خسائر بشرية كبيرة.

وأوضح الأستاذ هزرشي أنه بعد هذه المعركة، التحق بن عمران بمنطقة العمليات رقم 9 التي كان يديرها عمر إدريس، وشارك هناك في مواجهة الجيش الفرنسي والحركة المناوئة للثورة التي كان يقودها الخائن بلونيس. وأضاف أنه نتيجة لنشاطه الثوري المتواصل، تم تعيينه في ديسمبر 1958 مسؤولا على الناحية الثانية برتبة ملازم ثانٍ من طرف الرائد عمر إدريس.

كما ذكر هزرشي أن التحديات والمخاطر التي واجهتها الثورة في المنطقة تصاعدت بعد النكسات التي تعرّض لها جيش التحرير، خاصة بعد الهزيمة في معركة سردون في 19 فيفري 1959، واستشهاد قائد الولاية السادسة سي الحواس، واعتقال الرائد عمر إدريس، قائد المنطقة الثانية. وأفاد أنه بسبب هذه الظروف والحصار الذي فرضه الجيش الفرنسي والخونة، اضطر بن عمران ثامر وكاتبه العيمش براجع وأحد حراسه إلى الانتقال في شهر جوان 1959 إلى الملجأ الصحي التابع لجيش التحرير في منطقة قبر الحاشي غرب زنينة (الإدريسية حاليا). وأوضح الأستاذ هزرشي أن بن عمران انتقل بعد ذلك رفقة حارسه وكاتبه الخاص وثلاثة جنود كانوا يتلقون العلاج إلى منطقة الشايفة، حيث تعرّضوا لمؤامرة دنيئة دبّرها حارسه وشاركت فيها القومية، انتهت باستشهاده وإصابة كاتبه في 14 جوان 1959.

رفض دعوة بلونيس فدفع روحه ثمنا للوطن.. الشيخ الشهيد حاشي عبد الرحمان

أما الشهيد الثاني، فقال الأستاذ هزرشي بأنه الشيخ حاشي عبد الرحمن، المولود سنة 1917 بمنطقة مسكة بالقرب من الجلفة. وأوضح أن الشهيد تلقى تعليمه التقليدي في المساجد والكتاتيب القرآنية وزاوية الهامل، الأمر الذي أهّله للتدريس في مدرسة الإخلاص التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

وذكر هزرشي أن الشيخ حاشي انضم بعد ذلك لحركة انتصار الحريات الديمقراطية ومارس دوره في تنظيم الخلايا والتعبئة، وبث الوعي وتجذير الحماس للقضية الوطنية. وأضاف أنه انخرط في الثورة سنة 1955 ومارس النشاط المدني، من خلال توفير متطلبات الثورة كالسلاح والمال والمؤونة، ثم زاول النشاط العسكري في مارس 1956 تحت إدارة الشيخ زيان عاشور بجبال بوكحيل، والذي استمر إلى غاية 1958.

وحسب الأستاذ هزرشي، فإن الشيخ حاشي تعرّف خلال هذه الفترة على الكثير من قادة الثورة بالمنطقة، مثل عمر إدريس الذي كلفه بالاتصال بالخائن بلونيس وتخييره بين الانضمام للثورة أو مغادرة المنطقة. وأضاف أنه أشرف على اجتماع الاتحاد الذي انعقد في ماي 1957 بجبل قيقع بين وفد المنطقة الثامنة من الولاية الخامسة وإطارات منطقة عمر إدريس التي كانت تسمى بالمنطقة الوسطى.

وذكر هزرشي أنه تم تكليف الشيخ حاشي بالإشراف على تجميع الأموال، والتي بلغت حوالي 130 مليون فرنك فرنسي قديم. وفي سياق النشاط العسكري، أوضح الأستاذ هزرشي أن الشيخ حاشي شارك في مجموعة من المعارك والهجومات والكمائن والاشتباكات، كان من أبرزها كمين تجريد القومية والحركة من سلاحهم بناحية عمورة في ماي 1956، ومعركة جبل قزران، ومعركة جبل قيقع في 10 جوان 1956، وتفجير القطار والسكك الحديدية بين الجلفة وحاسي بحبح.

واسترسل هزرشي أنه بعد استشهاد القائد زيان عاشور في معركة واد خلفون بتاريخ 7 نوفمبر 1956 واستخلافه بعمر إدريس، سافر الأخير إلى المغرب لتأكيد علاقته بجيش التحرير وجلب السلاح، ونفي علاقته بالمصاليين، مما دفع إلى تعيين حاشي عبد الرحمن خليفة له، حيث أصبح يقود أكثر من ألف جندي. وأكد هزرشي أنه في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة من عمر الثورة الجزائرية، تحاك مؤامرة ترتبط بالحركة المناوئة للثورة التي كان يقودها الخائن بلونيس الذي أشاع خبر مقتل عمر إدريس. وأوضح أنه تم استدراج قادة الأفواج والوحدات باستدعائهم لاجتماع وهمي بعدما افتك الأختام من الضابط حاشي عبد الرحمن، وكُتبت رسائل إلى كل القادة يطلب منهم الالتحاق به فوراً وبشكل مستعجل.

وحسب ذات المتحدث، فإن هذه المؤامرة انتهت باحتجاز أبرز إطارات وقادة جيش التحرير في المنطقة، واعتقال أكثر من 80 إطاراً، أُعدم منهم 27 مجاهداً. أما الشيخ عبد الرحمن حاشي، فقد صرّح هزرشي أن بلونيس سلمه إلى ضباط الجيش الفرنسي الذين مارسوا عليه كل أشكال الاستنطاق والتعذيب والتنكيل لافتكاك معلومات تخص جيش التحرير، مؤكدا أنه بسبب تمسك الشيخ حاشي بتوجهه الثوري ورفضه الاستسلام للضغوط الممارسة عليه، تم نقله إلى العاصمة وطُلب منه عبر أمواج الإذاعة مخاطبة سكان الجلفة ودعوتهم لدعم بلونيس والوقوف إلى جانبه، وأنه بسبب تمسكه بمواقفه ورفضه القاطع لهذا الطلب الذي يصنف في دائرة الخيانة، أُعيد إلى الجلفة وتم تسليمه إلى العميل بلونيس الذي أعدمه في شهر جوان 1958.

وختم الأستاذ هزرشي بالتأكيد على أن هذين الشهيدين يمثلان نموذجاً للبطولة والتضحية التي يجب أن تظل حيّة في ذاكرة الأجيال، مشيراً إلى أهمية استحضار جميع الشهداء الذين سقطوا في سبيل حرية الجزائر واستقلالها.

محمد شافو المدعو"حمَّى عاشور".. الشهيد الذي غاب جسده عن العيون.. لكنه حاضر في القلوب

نفض البروفيسور رضوان شافو من جامعة الوادي، الغبار على شهيد يعرفه كل أبناء المنطقة ويجهله أغلب الجزائريين، إنه الشهيد محمد شافو المدعو "حمَّى عاشور" الذي قال فيه البروفيسور شافو إنه "شهيدٌ خرج من بين أبناء الجزائر يحمل حلم الحرية في قلبه، وسلاح الإيمان في يده، ترك وراءه الأهل والدار، والتحق برفاقه في صفوف الثورة بمنطقة وادي ريغ، يقاتل المستعمر من أجل أن تشرق شمس الاستقلال على أرض الجزائر. قاتل وناضل بكل شجاعة، مؤمنًا أن الوطن لا يُستعاد إلا بالتضحية، حتى جاء يومٌ ارتوت فيه الأرض من دمه الطاهر، حيث استشهد في مواجهة ضارية مع العدو الفرنسي، ولم يُعثر على جثمانه بعد، فبقي بلا قبر، ولكنه في كل شبرٍ من الجزائر مرقد، وفي كل قلبٍ نابض بالوطن ذكرى، لم يُدفن جسده في ترابٍ محدّد، لأن تراب الجزائر كلّه يحتضنه، ولم يُكتب اسمه على شاهدة، لأن اسمه محفور في ذاكرة الأحرار، هو الشهيد الذي غاب جسده عن العيون، لكنه حاضر في الوجدان، يروي لنا أن الحرية لا تُقاس بما نملك، بل بما قدّمنا فداءً لها".

يقول البروفيسور شافو إن الشهيد محمد شافو المدعو (حمىَّ عاشور) ولد سنة 1929 ببلدة المقارين، والده سعد وأمه تركية، نشأ في حضن والديه مع إخوانه في عائلة ميسورة الحال ومتواضعة الدخل، أدخله أبوه إلى المدرسة القرآنية بجامع الطالب العربي علاوة ثم الطالب لخضر بالعمودي بحي أعميش. حينها، تمكن من حفظ نصف القرآن وعمره لا يتجاوز عشر سنوات، وهذا ما دفعه لأن يؤُم الناس في صلاة التراويح خلال شهر رمضان "وفي سنة 1954 انتقلت أسرته إلى بسكرة للعمل (كخمَّاس) في غابة الكولون جان مارشونديس MARCHANDIS JANEAU بمنطقة السّعدة ناحية سيدي عقبة، وهناك امتهن حرفة الفلاحة مع والده إلى أن بلغ عمره 22 سنة، ليعود مع عائلته إلى مسقط رأسه بالمقارين، وهناك تزوّج بحرية الطاهري وأنجبت له ولده الوحيد أحمد".

وذكر البروفيسور أن اهتمام الشهيد محمد شافو بالنضال الثوري يعـود إلى أنه عندما كان يعمل مع والده في غابة المُعمّرMARCHANDIS JANEAU بولاية بسكرة، حيث كانت لوالده علاقات أخوية مع بعض المجاهدين بالمنطقة آنذاك، ولكون أن منبع الثورة التحريرية كان قريبا منه وهي منطقة الأوراس، فهذه الظروف هي التي كانت وراء تشبع محمد بالأفكار الثورية والمبادئ الوطنية وقد تزامن هذا، حسبه، مع عودة عائلته إلى منطقة المقارين، أين كانت بوادر النشاط النضالي تلوح في الأفق، حيث تشبّع أهالي المنطقة بأفكار الثورة التي كان ينشرها الشهيد الطيب بن موسى الذي أيقظ الشعور الوطني والإحساس بالوضع الاجتماعي المزري الذي أوجده الاستعمار الفرنسي. وما أن جاءت سنة 1957 حتى أثبت محمد شافو للجميع أنه بطل مغوار، من خلال العملية الفدائية التي قام بها، يؤكد البروفيسور، ضمنت له الالتحاق بصفوف الخلية المدنية لجبهة التحرير الوطني التي كانت تنشط بالمنطقة، وأكد قائلا: "وتعود حيثيات العملية الفدائية إلى أن الشهيد محمد شافو الذي كُلف بجمع التبرعات، كثير الاتصال بالبعثات الفدائية. وحسب شهادة أخيه الحاج موسى شافو، فإنه كان يطلب منهم السماح له بالصعود نحو مناطق الشمال لحمل السلاح والالتحاق بصفوف الثورة في الجبال، ولكنهم كانوا يمنعونه تطبيقا لمبدأ من مبادئ الثورة التحريرية الصارمة".

وحسب البروفيسور رضوان، فإنه في 1957 جاءت إلى الجماعة بعثة فدائية جديدة يرأسها القائد "لحسن بن عبد المالك" ومعه "العيد بن صحراوي" من المغير و"محمود بداري" من الشمال، فأعجبوا بصرامة المناضل محمد شافو وإرادته في خوض الكفاح المسلح، فأرشدوه إلى السبيل الوحيد الذي يمكّنه من مبتغاه، وهو القيام بعملية فدائية تثبت كفاءته "وعليه، راح الشهيد محمد شافو يخطط ويتحيَّن الفرص السانحة له، من ضمنها أنه وجد مجموعة من الأشخاص الخونة (قومية) كان قد دوَّن أسماءهم عنده وعزم على قتلهم ذبحا، لكونهم كانوا مشهورين بفسادهم وتعاملهم مع الإدارة الفرنسية. ولما علم بعض المجاهدين ما عزم عليه، أبلغوا الشهيد الطيب بن موسى، رئيس الخلية المدنية لجبهة التحرير الوطني بالمقارين، فغضب واستدعى الشهيد محمد شافو طالبا منه التريث وعدم القيام بأية خطوة، إلا أن الإصرار والعزيمة عند الشهيد محمد شافو جعلته يبقى متربصا ينتظر فرصة أخرى لتحقيق حلمه، وجاءت الفرصة إثر اجتماع المقارين المشهور سنة 1957 برئاسة القائد لحسن بن عبد المالك، وقدر محمد شافو استغلال مجيء دورية من الجنود الفرنسيين رفقة بعض القومية لتحصيل الضرائب والغرامات التي كان قد جمعها وسلبها من أهالي المقارين، فقام بمهاجمة منزل الخائن ليلا، والذي كان يستضيف هذه الدورية العسكرية. واستطاع الشهيد أن يلقي القبض على الموجودين داخل المنزل، في حين استطاع اثنان الفرار عبر السطوح، ليقتاد الشهيد محمد شافو المقبوض عليهم إلى غاية تيزاوين بالقرب من مركز اللجنة المدنية لجبهة التحرير الوطني، ونفد فيهم حكم الإعدام بالذبح مع مجموعة من المجاهدين، وهي العملية التي ضمنت له حسب شافو الالتحاق بصفوف المجاهدين بالمنطقة، ولسان حالة يقول كما قال الشاعر الحسن بن علي:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى   إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما

وواسى الرجـــال الصالحين بنفسه        وخالف مثبوراً وفارق مجرما

فإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلم       كفى بك ذلا أن تعيش وترغم

بالإضافة إلى ذلك، أكد أستاذ التاريخ بجامعة الوادي أن الشهيد كان من الاستعلامات السرية، أي يأتي بأخبار وأسرار الأعداء إلى اللجنة الفدائية، وجلب الأسلحة من المركز العسكري الفرنسي، وأعطاها إلى إخوانه المجاهدين. ويذكر أن اللجنة المدنية كانت قد كلّفته بمهمة خطيرة، تتمثل في ذهابه إلى المركز العسكري الفرنسي (الثكنة) بتوقرت لاستسلام ذخيرة أسلحة على الساعة الثانية عشر صباحا من طرف أحد الحراس المتعاونين مع الخلية المدنية لجبهة التحرير الوطني، وقد كلّلت العملية بنجاح كبير.

وتذكر الروايات الشفوية الشعبية أن الشهيد محمد شافو استشهد في إحدى المواجهات العنيفة مع القوات الفرنسية بناحية منطقة المغير، يقول البروفيسور، وهو يقاتل حتى اللحظة الأخيرة دفاعًا عن أرضه وكرامة شعبه سنة 1958، وبيده بندقية ولباس عسكري برتبة ملازم "قبره لم يُعرف لحد هذه الساعة، ولكن ذكراه تُروى في كل بيت، وصورته تعيش في وجدان كل من يؤمن أن الحرية ثمنها دماء الشهداء. لقد رحل جسده عن الأنظار، لكن روحه باقية ترفرف فوق أرض منطقة وادي ريغ وجبال الجزائر، تذكّرنا بأن الاستقلال لم يكن هدية، بل كان ثمرة تضحيات رجالٍ لم يخافوا الموت من أجل أن تحيا الجزائر حرة مستقلة".