هل نحن في حاجة إلى تجديد الخطاب حول نوفمبر؟ وكيف نبدع إبداع سردية أدبية وتاريخية تبرز قيمَها الإنسانيّة؟ وهل يمكن القوْل إنّ "بيان نوفمبر" التّاريخي هو "بيان سِلْم" في جوهَره؟ كان خيار الثورة التحريرية الوحيد بعد الفشل السّياسي وعصر من الإبادة الجماعيّة ومسْخ الهويّة والعنصريّة، فمضمونها هو تحرير الأرض والإنسان معاً، وهي الأبعاد التي ألهمت المناضل والفيلسوف فرانز فانون وما زالت مادّة خام لخطاب ما بعد الكولينالية (الاستعماريّة) الذي ينتعش في الجامعات كتخصّص علمي.
قرأ الفيلسوف الأمريكي جون راولز الثّورة الفرنسية من خلال: مبدأ الحريّات الأساسيّة المتساوية وانتهاك هذه الحريّات غير مقبول ولا يمكن تعويضه بمكاسب اقتصادية أو اجتماعية، وأشاد بالعَقْد الاجتماعي الذي مهّد للثورة، فالمؤرخ فرناند بروديل قائد مدرسة الحوليات في فرنسا يرى أنه لا يمكن فهْم الثّورة الفرنسية بمعزل عن سياقها التاريخي الطويل الذي أدّى إلى تراكم التّوترات البنيويّة، ومن أكثر الذين انتقدوا الثّورة الفرنسيّة الفيلسوفة الألمانية التي تقول إنّه على الرّغم من أن الثورة الفرنسيّة غالبًا ما تُتخذ نموذجًا للثّورات الحديثة، كانت في الواقع كارثة مقارنة بالثّورة الأمريكية، فقد انتهت إلى العنف والاستبداد لأنها انحرفت عن هدفها السّياسي "الحرية"، وطرحت مفهوم "الشّرط الإنساني" في مواجهة العنف.
ومن أحدث الدراسات ما دعا إليه أستاذ العلوم السياسية الأمريكي مارك. ت ميتشل إلى طريق ثالث سمّاه "نزعة محليّة إنسانيّة" بديلة عن النّزعة القبلية التي يتبنّاها اليمين والتّطرف وأصحاب الهُويّة المغلقة والانتماء الوطني التقليدي وبديلة عن النّزعة الكونية الّليبرالية، والطريق الثالث يتّسم بتقدير التّنوع والاختلاف بين الثّقافات وما ينشأ عنها من تراثيّات، وبالتّالي تقاوم الدّافع القويّ جِداً إلى التّجانس في الدّيمقراطيّات الليبرالية الحديثة، وهي نزعة تُعطي اعتباراً للهويّات والهامش أي "المحليّات" ولا يكون تبنّي هذا النّزعة مدفوعة بالخوف من الآخر أو كراهيّته، فشعار الثّورة الفرنسيّة والليبرالية عن الحريّة والإخاء والمساواة وصَلت إلى مستويات متطرّفة، وبدلاً من أن تلِد نظاماً جديداً للحريّة.
بالنّسبة للثّورة الجزائرية التي انطلقت أساساً من تَمازج مُبدع بين الانتماء الدّيني الذي قرأت في الأمير عبد القادر ومقاومة القرن التاسع عشر مضمونَه، وخطاب الحركة الوطنية عن الحرية والاستقلال والمساواة، ولذلك تَنسيب نوفمبر ووسْمه إلى توجّه أيديولوجي أو طائفي معيّن ضدّ روح هذا التّمازج المبدع الحيوي الحركي بين العنصرين المشار إليهما، وقراءة تأويليّة وتفكيكيّة لبيان نوفمبر ومواثيق الثّورة يضعنا أمام "نزعة إنسانيّةّ" هي اليوم جوهَر ما يسمّى "ما بعد الكونيالية" في نقد الإرث الاستعماري والمركزية الغربية والهيمنة الجديدة متعدّدة الأقطاب، وسوف تكون نصوص إدوارد سعيد (نقد الاستشراق والمركزية الغربية) وفرانز فانون (بِشرة سوداء وأقنعة بيضاء.. معذبو الأرض) والمنظر الهندي- البريطاني هومي بابا (حول التهجين والتقليد والمحاكاة) وزميلته غاياتريسبيفاك (هل يمكن للتّابع أن يتكلّم؟) هي الرّائدة في هذا المجال، كما ستكون المثُل الإنسانية التي جسّدتها ثورة نوفمبر هي قِيم مشتركة للشُّعوب التي تسعى للتحرّر، بلْ حتى الاحتجاجات ومنها الحراك الشعبي في الجزائر حيث حضرَت الثّورة بهذا الزّخم في الدفاع عن "كرامة" الإنسان، ومن هنا يمكننا القول إن "نوفمبر عنوان الكرامة الإنسانيّة".
لقد ارتبط مفهوم "الكَرامة" اليوم في الدّساتير والّلوائح الأممية بالحقوق الإنسانيّة، وتَشترك البشريّة في تاريخها الدّيني والثّقافي في الإعلاء من قِيمة "الإنسان" حَسب طبيعة الأنظمة الاجتماعية والسيّاسيّة السّائدة، وقد نجد خِلافاً بين الدّيانات في مفهوم "التّكريم" الذي خصّه الله بالإنسان، ويرتبط ذلك بسَرديّة خلْق آدم عليه السلام والغاية من وجوده، أي أن السّؤال عن "وجُوديّة وماهية الإنسان" هو مَناط ما يحقّقه من علاقته بالله وبالآخر وبالطّبيعة، كما أن السّؤال عن "المصير" يرتبط بعمله الدنيوي من أجل الآخرة، وإذا كانت النّهضة والتنوير في الغرب أعادت قراءة أعمال فلاسفة الإغريق من خلال "اعْرف نفسَك بنفسِك" ومن خلال "قضايا اللذة والألم" و"الفلسفة الفرديّة" و"رؤية طاليس والطبيعيين للحياة"، هذا الميراث بتنوّعه كان مَرناً في تأويله وإعادة إحيائه وفق النّظريات الجديدة المتعلّقة بالحقّ الطّبيعي وبحقوق الإنسان، وقد تنبّه إصلاحيو الإسلام إلى ثَراء الإسلام والثّقافة العربية في مضامينه التي تدْعو إلى "القِيم الإنسَانية" والاهتمام بالإنسان كإنسان قبل حقوقه، فقد اعتبر المفَسّر الطّاهر بن عاشور (ت 1973) أن "آية التّكريم" تشمل التكريم الخِلْقي و"التّفضيل" الذي يكون باستعمال العقل، ومن هنا فالغاية الوجودية للإنسان هو "التّكريم والتّفضيل"، أي أن الوظيفة الوجُوديّة المنوط بها تعمير الكون شَرط الحِفاظ على "آدمية الإنسان"، وهذا ما قامت به الثورة التّحريرية كإنجاز فعلي في مرحلة تاريخيّة فاصِلة، والذي يخلّدها أنها لم تكن من أجل إراقة الدّماء أو انتصار أيديولوجي أو ديني بحت، بل عنصرها الإنساني الذي تحدّت عنه هو "عقلها" و"روحها"، إنها أعطت المعنى "للوجود الجزائري" الذي كان مواطناً في الدرجة الثّانية، وأرجعت للهوية العريقة وهجها ودورها في النهوض والتقدّم، لكن الانتكاسات هي من أدخلت الشكّ والاهتزاز في الارتباط الوجداني للشّباب بالثورة وأمجادها.
بهذه الدّلالات كان موقف بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء الغربيين إيجابيّاً ومؤيداً لثورة التحرير، منهم: حَمَلة الحقائب" وسارتر الوجودي وبول ريكور، وبعض مما يكتبه اليوم مؤرخون وعلماء اجتماع من الغرب علينا متابعته والاهتمام به لأنّ بعض الرؤى تُسْهِم في إبداع "سَرديّة جديدة حول الثّورة"، كما أن النقد الذي يوجّه للثورة الفرنسية والأمريكية والثورات المعاصرة مثل البلشفية حصيلة منهجية نتمرّن بها على منهج يتجاوز الكتابة التّقليدية.
لقد اعتبر قادة الثّورة الأمريكية نظرية مونتسكيو في الفصل بين السّلطات من أعظم الابتكارات التي طبّقوها في الحكومة الجمهورية الجديدة، في حين لم تقُم هذه النّظريّة إلا بدور بسيط جدّاً في فكر الثّوريين الأوروبيين في العصور كافة. قال كوندرسييه: "كلمة ثورة لا تنطبق إلا على الثّورات التي يكون هدفها الحريّة"، والحريّة ظاهرة معاصرة لنشوء المدينة، وجرى فهمها منذ هيرودوت بأنها شكلٌ من التّنظيم السّياسي يعيش فيه المواطنون معاً تحت ظُروف من الحكم، ودون فصل بين الحكام والمحكومين، فالحريّة تفهم بصفَتها ظاهرة في فعاليّات إنسانيّة معيّنة، أن حياة الإنسان حرّة تحتاج إلى وجود آخرين، أن الحريّة ذاتها تحتاج إلى مكانٍ يمكن أن يلتقي فيه الناس، ساحة عامّة أو سوق أو "مدينة –دولة" أي المجال السياسي المناسب.
إنّ الذّاكرة لا تُحيي الماضي ولكن تُعيد تشكيله، كما أن استعمال ّالذّاكرة الجماعية" كان الهدف منه تحرير الشّعوب لا استعبادها، وهنا نكون أمام "ذاكرة عادلة" و"ذاكرة تشفي" من الجِراح، فالحُضور للأحداث والقِيم الرّمزية المكثّفة في مراحل تاريخية يكون فيه الفعاليّة من أجل إنجاز مهمّة ما أو الخروج من مرحلة تاريخية أو تحرير من استعباد وقهر وظُلم، من هنا يكون "تواصُل الأجيال" عبر الذّاكرة فيه إعادة تشكيل هُويّتهم ومعناهم الوجودي.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال