الوطن

مسار محارب

ظهرت أولى إرهاصات مطلب الاعتراف والتعويض في الثمانينيات، حين رفع 43 برلمانيًا من أبناء الشهداء لائحة سياسية لمطالبة السلطات الفرنسية بالاعتراف والاعتذار.

  • 606
  • 3:30 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

لم يدخل مطلب الاعتذار والتعويض على خط العلاقات الجزائرية الفرنسية إلا بعد ربع قرن من التحرر من نير الاستعمار، فجيل الثورة الذي سيطر على مقاليد الحكم، والمُنتشي بالاستقلال، لم يكن يرى حاجة في طلب المنتصر اعتذارًا من المنهزم، أي فرنسا، إلى جانب عدم الرغبة في إثارة خلافات مع الدولة الاستعمارية السابقة قد تؤثر على جهود إعادة بناء الدولة الوطنية.

لكن مع تنامي الوعي السياسي في الجزائر، ومحاولة أجيال الاستقلال وفئة من أبناء الشهداء الراغبين في لعب أدوار سياسية والسير على خط مستقل عن مسار الآباء المؤسسين، أي المجاهدين، أخذ مطلب الاعتراف والتعويض يتبلور شيئًا فشيئًا، بالموازاة مع ظهور حركة مطلبية دولية تقودها الحركات المدافعة عن حقوق السود، ضحايا تجارة الرقيق، وضحايا الهولوكوست، وتوجه الدول الغربية نفسها لمنح طلب الغفران من بعض الشعوب المستعمرة.

وظهرت أولى إرهاصات مطلب الاعتراف والتعويض في الثمانينيات، حين رفع 43 برلمانيًا من أبناء الشهداء لائحة سياسية لمطالبة السلطات الفرنسية بالاعتراف والاعتذار عن جرائم الاستعمار.

ترافق هذا التحرك المطلبي مع بروز أعمال بحثية في الجزائر وفرنسا تسلط الضوء على الماضي الاستعماري وجرائمه، وشكل شريط "كم أحبكم" للراحل عز الدين مدور ثورة مفاهيمية ومعرفية في كشف الماضي الاستعماري الفرنسي، مثيرًا احتجاجًا شديدًا في فرنسا، وقدم هذا الشريط، الذي جاء بصوت الممثل والكاتب المسرحي الراحل عبد القادر علولة، أدلة على حجم الدماء الذي سببته التجارب النووية في رڤان.

ورغم فشل جيل الأحادية في انتزاع إنجاز بخصوص تجريم الاستعمار، تمكن نواب من إصدار قانون المجاهد والشهيد في 1999، الذي حمل مضامين مطلبية؛ إذ تناول حقوق وامتيازات المجاهدين وذوي حقوقهم (أرامل الشهداء وأبنائهم)، لكنه لم يغفل الجوانب المتعلقة بالذاكرة؛ حيث اقترح إنشاء مؤسسة للذاكرة التي لم ترَ النور لغاية اليوم، وحماية وتصنيف المعالم التاريخية والمادية المتعلقة بالثورة التحريرية، وذلك بالتنسيق مع الجماعات المحلية وجمعيات المجتمع المدني، وجمع وتوثيق شهادات المجاهدين الحية، وإنشاء قاعدة بيانات رقمية لهذه الشهادات لتكون مرجعًا في توثيق تاريخ الثورة.

أول محاولة

وفي بداية الألفية الجديدة؛ تبنى الخطاب الرسمي مطلب الاعتذار للضغط على فرنسا وتعزيز موقع الفريق الحاكم داخليا بدعم من منظمة المجاهدين، لكن ترجمة المساعي جاء على يد النواب، ففي عام 2001، اقترح ابن الشهيد محند أرزقي فراد، المدعوم من مجموعة النواب، قانونًا لتجريم الاستعمار جاء في ثلاث مواد: نصت مادته الأولى على اعتبار العمليات العسكرية الفرنسية التي استهدفت الشعب الجزائري في حياته وسيادته وكرامته وحريته، جرائم ضد الإنسانية. فيما نصت المادة الثانية على أن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر لا تخضع لقاعدة التقادم. وتكرس المادة الثالثة مطلب التعويضات عن الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن الجرائم المذكورة في المادة الأولى، حقًا للدولة الجزائرية والجمعيات والأفراد.

ورحل النائب فراد أرزقي عن المجلس دون أن يأخذ مشروعه مساره التشريعي؛ بسبب اعتراضات من الحكومة التي قامت بتعطيل مسار المصادقة بتوظيف الأغلبية البرلمانية المساندة لها على مستوى المكتب لعدم التأثير على تطبيع العلاقات الثنائية مع فرنسا، بالترويج لكونه منافٍ لاتفاقيات إيفيان، التي لا يتحرج الجانب الفرنسي بالتهديد بإلغائها.

ثم جرت محاولة في العهدة 2005-2007 بقيادة نواب من حركة الإصلاح الوطني، رداً على قانون تمجيد الاستعمار الذي اقترحه نواب اليمين التقليدي للتقرب من الكتلة الناخبة المشكلة من الحركى والأقدام السوداء وأنصار الجزائر فرنسية. ومرة أخرى لم يتوج المسعى، بسبب عدم رغبة السلطات في الصدام مع فرنسا، والاكتفاء بالتلويح بالقانون كورقة ضغط.

وتكرر المشهد في العهدة 2007-2012، حين ظهر مقترح النائب موسى عبدي، بدعم حوالي 120 برلمانيًا، ولم يختلف مصيره عن سابقيه، حيث كان الرفض بذريعة آثاره السلبية على العلاقات الجزائرية الفرنسية.

ونص المقترح، المكون من 20 مادة، على إنشاء محاكم مختصة لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الاستعمار أو ملاحقتهم أمام محاكم دولية، وتجريم الاستعمار الفرنسي عن كامل الأعمال الإجرامية التي قام بها في الجزائر، واسترجاع الأرشيف الجزائري الذي استولت عليه فرنسا.

وفي مستهل العهدة النيابية الجديدة 2021-2026، جرى إحياء المساعي بقيادة نواب حركة مجتمع السلم، المسنودين من زملاء من كتل أخرى، بمن فيهم الموالاة، بإطلاق مقترح يكرّس إدانة الاستعمار الفرنسي عن كامل الأعمال الإجرامية التي ارتكبها، واسترجاع الحقوق المسلوبة المعنوية والمادية على حد سواء، جراء العدوان المسلح على الشعب الجزائري منذ 14 جوان 1830 حتى الاستقلال.

مقترح بوغالي

وفي مارس الماضي، بعثت المساعي بالتزامن مع حالة الانسداد التي بلغتها العلاقات الثنائية وتجمد نشاط اللجنة المشتركة للذاكرة التي تم الاتفاق على إنشائها في 2021، بتشكيل لجنة تضم المجموعات البرلمانية الست لتجهيز قانون بمبادرة من رئيس المجلس الشعبي الوطني إبراهيم بوغالي، لتجهيز نص تشريع قانون قوي يوضع تحت تصرف السلطات، على أن يتم إخراجه في الوقت المناسب بالموازاة مع العمل على الجبهة الإفريقية للحصول على تجريم الفعل الاستعماري وتعويض المستبعدين عن الجرائم.