الوطن

فرنسا الخاسر الأكبر من القطيعة

الخبراء والمحللون يستبعدون وصول الأزمة إلى حد القطيعة التامة.

  • 12462
  • 3:44 دقيقة
الصورة: وكالات
الصورة: وكالات

رغم التصعيد المتزايد في العلاقات بين الجزائر وباريس، يستبعد العديد من الخبراء والمحللين أن تصل الأزمة إلى حد القطيعة التامة، نظرا لما قد تلحقه من خسائر جسيمة بفرنسا على مختلف المستويات، ما يجعل الحفاظ على الحد الأدنى من التواصل بين الطرفين ضرورة استراتيجية لا يمكن تجاهلها.

وقال أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، عبد الرزاق صاغور، في تصريح لـ "الخبر": "إن كل القضايا المختلف عليها بالإمكان حلها عن طريق الحوار والتفاوض في حال وجود نية للتهدئة من قبل الطبقة السياسية الفرنسية"، متسائلا: "هل باريس مستعدة أن تفقد مكانتها ومصالحها المتعددة مع الجزائر من أجل قضية الكاتب بوعلام صنصال".

في حال قطع العلاقات ستتكبد باريس خسائر كبيرة على عدة مستويات مترابطة من الجانب الاقتصادي تعتبر الجزائر سوقا استراتيجية للصادرات الفرنسية، تشمل الأدوية، الحبوب، السيارات والمعدات الصناعية، كما تنشط فيها أكثر من 500 شركة فرنسية تولّد مليارات من العائدات سنويًا. أي توقف في العلاقات سيؤدي إلى إقصاء هذه الشركات من مشاريع حيوية في الجزائر، خاصة في قطاعات الطاقة والبنى التحتية. إضافة إلى ذلك، تعد الجزائر من الموردين الرئيسيين للغاز الطبيعي إلى أوروبا، وأي توتر أو قطيعة قد يهدد الأمن الطاقوي الفرنسي في ظل التحديات العالمية الراهنة.

ومن ناحية النفوذ الجيوسياسي قد تخسر فرنسا موطئ قدم استراتيجي في شمال إفريقيا، وهي منطقة لطالما اعتبرتها امتدادا طبيعيا لمجالها الحيوي، مما يفسح المجال لقوى أخرى، كالصين وروسيا والولايات المتحدة لتملأ الفراغ وتقلص من التأثير الفرنسي التقليدي. هذا التراجع يضعف من قدرة باريس على التأثير في الملفات الإقليمية في الساحل والصحراء وليبيا خصوصا في ظل تراجع نفوذها الرهيب في المنطقة.

ومن الجانب الاجتماعي ترتبط فرنسا والجزائر بجالية جزائرية كبيرة ومتشعبة في الداخل الفرنسي، تعدّ من ركائز التعدد الثقافي والاقتصادي وأي قطيعة تامة ستؤثر سلبا على الاستقرار الداخلي الفرنسي، من خلال تصعيد التوترات الاجتماعية وتغذية الخطابات المتطرفة في كلا البلدين وعرقلة التعاون في ملفات الهجرة، التعليم والتبادل الثقافي.

بالمجمل، فإن قطيعة مع الجزائر لا تعني مجرد أزمة عابرة، بل ضربة عميقة لمكانة فرنسا في إفريقيا ومساس مباشر بمصالحها الاقتصادية، الطاقوية والثقافية، ما يجعل الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات أمراً استراتيجيا لا مفر منه لباريس.

ومن هذا المنطلق، يرى الدكتور عبد الرزاق صاغور، أن هناك سوء تقدير من الطرفين في علاج المشكلات العالقة بين البلدين، لكن أن تصل إلى قطع العلاقات، فهذا معناه أن فرنسا تخلت على علاقتها ومصالحها في إفريقيا، ونفس الشيء بالنسبة للجزائر في أوروبا أو بالأحرى الاتحاد الأوروبي، وختم مؤكدا أن قطع العلاقات بين الجزائر وفرنسا انتحار للبلدين.

تصعيد غير مسبوق

بلغ السجال بين الجزائر وفرنسا ذروته بعد الكشف عن مضمون رسالة وجّهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وزيره الأول، تضمّنت قرارات تصعيدية في ملفات الهجرة والتأشيرات، وهو ما اعتبرته الجزائر إجراء أحاديا وغير مبرّر، وردّت وزارة الشؤون الخارجية ببيانين متتاليين، الأول انتقد بشدة مضمون الرسالة الفرنسية ورفض الابتزاز السياسي، والثاني أعلن عن إلغاء العمل باتفاق الإعفاء من التأشيرات لحاملي الجوازات الدبلوماسية وجوازات المهمات الفرنسيين.

ويعكس التباين في المصطلحات المستعملة من قبل الجزائر وباريس بشأن اتفاقية 2013 الخاصة بإعفاء حاملي الجوازات الدبلوماسية والرسمية من التأشيرة، اختلافا جوهريا في الموقف القانوني والسياسي لكل طرف. فمصطلح "التعليق" الذي اعتمدته فرنسا يفهم في القانون الدولي على أنه إجراء مؤقت يوقف تنفيذ الاتفاقية دون إنهائها، مما يعني أن الاتفاقية لا تزال قائمة من حيث المبدأ، ويمكن استئناف تنفيذها متى زالت الأسباب التي أدت إلى تعليقها.

في المقابل، استعمال الجزائر لمصطلح "النقض" يدل على موقف أكثر حزما، حيث يفهم قانونيا على أنه إنهاء نهائي وقطعي للاتفاقية، وبالتالي إعلان الدولة انسحابها من التزاماتها بموجبها، وهو ما يستتبع عادة إجراءات شكلية وفقا لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969. هذا التباين في التوصيف لا يقتصر على الأثر القانوني، بل يعكس أيضا طبيعة العلاقة الدبلوماسية بين الطرفين.

مخاوف في أوساط الجالية

بدوره عبّر النائب عن الجالية في فرنسا، عبد الوهاب يعقوبي، عن قلقه من انعكاسات التصعيد، محذرا من استغلال أفراد الجالية المقيمين قانونيا كورقة ضغط سياسية. وأدان في منشور له العقوبات الجماعية التي تطال الطلبة والعائلات عبر تقليص التأشيرات الطويلة المدى، معتبرا أن ذلك يمثل خرقا للاتفاقيات الثنائية والدولية.

ودعا يعقوبي إلى احترام مبدأ المعاملة بالمثل وتفعيل الدبلوماسية البرلمانية وإشراك ممثلي الجالية في أي مفاوضات تتعلق بالسياسات القنصلية والهجرة. كما ربط التصعيد بالسياق الانتخابي الفرنسي، مشيرًا إلى أن اقتراب الاستحقاقات المحلية والرئاسية يدفع بعض الأطراف إلى توظيف ملف الهجرة والعلاقات مع الجزائر لأغراض انتخابية. داعيا في المقابل إلى التهدئة والحوار المسؤول الذي يحفظ الروابط التاريخية والإنسانية بين البلدين.

ويرى متابعون أن الخلافات حول التأشيرات وجوازات السفر ليست سوى مظاهر سطحية لصراع أعمق يتعلق برفض الجزائر البقاء تحت الهيمنة الاقتصادية الفرنسية، معتبرين أن باريس ترغب في الاحتفاظ باحتكار السوق الجزائرية وثرواتها والحفاظ على دورها التاريخي كوسيط بين الجزائر والدول الكبرى، وهو ما تغيّر جذريا بعد 2019، ما أثار غضبها، مذكّرين بأزمات مشابهة خلال سبعينيات القرن الماضي بسبب استقلالية القرار الاقتصادي الجزائري.