سِتر الإخوان.. دِين وإحسان وطاعة وقُربان

38serv

+ -

أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: ”يدنو أحدكم من ربّه، فيقول: أعملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرِّرُه، ثمّ يقول: إنّي سترتُ عليك في الدّنيا، وأنا أغفرها لك اليوم”.أمرنا ربّنا سبحانه بستر العورات، وتغطية العيوب، وإخفاء الهنات والزلّات، وخاصة مع مَن ليسوا معروفين بالأذى والفساد، فمن كان حريصًا على ستر المسلمين في الدّنيا إذا زلُّوا أو وقعوا في الهفوات، فإن الله تعالى يستره في موقف هو أشدّ ما يكون احتياجًا إلى السّتر والعفو حين تجتمع الخلائق للعرض والحساب، ففي الصحيح يقول سيِّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم: ”مَن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة”، ويقول أيضًا: ”لا يستر عبد عبدًا في الدّنيا إلّا ستره الله يوم القيامة”.وجزاء السّتر وثوابه الجنّة، قال صلّى الله عليه وسلّم: ”لا يرى مؤمن من أخيه عورة فيسترها عليه إلّا أدخله الله بها الجنّة”، ويقول كذلك: ”مَن ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتّى يفضحه بها في بيته”.وأوّل من ارتكب موبقة هتك السّتر إبليس اللعين، فهو وأولياؤه يحرصون على كشف السوءات والعورات، فلا زال بأبينا آدم وأمِّنا حواء حتّى بدت لهما سوءاتهما، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا، إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُو وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ، إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}.إنّ الشّريعة المحمدية تحثّ على السّتر، ولم تتشوف أبدًا لكثرة المحدودين والمرجومين، فمَن اتّهم آخر فلا بدّ من بيّنة تكون أوضح من شمس النّهار؛ ولذلك شُرع إقامة حدّ القذف على مَن رمى مؤمنًا بغير بيّنة شرعية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، كما أنّ الشارع الحكيم نهانَا عن هتك السّتر، فحينما أتى هَزَّالُ بنُ يزيدٍ الأسلمي بماعز بن مالك الأسلمي لإقامة الحدّ عليه قال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ”لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك”.وحثّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مَن وقع في معصية أن يستر نفسه ولا يفضحها، فالمرء كلّما ازداد سترًا كان أقرب لمغفرة ذنبه، ففي الصّحيح: ”كلّ أمّتي مُعافًى إلّا المجاهرين، وإنّ منَ الإجهار أن يَعمل العبد باللّيل عملًا، ثمّ يصبح قد ستره ربّه فيقول: يا فلان قد عملتَ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه، ويصبح يكشف ستر الله عنه”، وفي الموطأ: ”مَن أتى شيئًا من هذه القاذورات فليستتر، فإنّه من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه كتاب الله”، وفي الصّحيح أنّ رجلًا جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنّي عالجتُ امرأة في أقصى المدينة، وإنّي أصبتُ منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا فاقض فيَّ ما شئت، فقال عمر رضي الله عنه: لقد سترك الله فهلا سترتَ نفسك، فلم يَرُدَّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئًا، فقام الرجل فانطلق فأتبعه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجلًا دعاه وتلَا عليه هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}، فكلّ ذلك يدل على التأكيد على أهمية السّتر وفضله.والآثار في هذا أكثر من أن تحصى، فعن مريمَ بنتِ طارقٍ أنّ امرأة قالت لعائشة: يا أم المؤمنين إن كَريَّا (من يؤجِّر دوابه) أخذ بساقي وأنا محرِمة، فقالت: حِجرًا حِجرًا (أي: سترًا)، وأعرضت بوجهها وقالت: يا نساء المؤمنين إذا أذنبت إحداكن ذنبًا فلا تخبرنَّ به الناس، ولْتَستَغفِرَنَّ الله ولتَتُب إليه، فإن العباد يُعَيِّرون ولا يُغَيِّرون، والله تعالى يُغَيِّرُ ولا يُعَيِّرُ.وعن أبي الشعثاء قال: كان شرحبيل بن السمط على جيش فقال: إنكم نزلتُم بأرض فيها نساء وشراب، فمن أصاب منكم حدًا فليأتنا حتّى نطهّره، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه: لا أم لك، تأمر قومًا ستر الله عليهم أن يهتكوا ستر الله عليهم. وعند أبي داود أنّ عقبة بن عامر رضي الله عنه كان له كاتب، وكان جيرانُ هذا الكاتب يشربون الخمر، فقال يومًا لعقبة: إنّ لنا جيراني يشربون الخمر، وسأخبر الشُّرَط ليأخذوهم، فقال عقبة: لا تفعل، بل عِظْهُم، فقال الكاتب: إنّي نهيتهم فلم ينتهوا، وأنا داع لهم الشُّرَط ليأخذوهم، فقال عقبة: ويحك لا تفعل، فإنّي سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”مَن رأى عورة فسترها كان كمن أحيَا موءودة”.إنّ السّتر يطفئ نار الفساد، ويشيع المحبّة في الناس، وهو علاج اجتماعي؛ حيث تختفي فيه كثير من أمراض المجتمع، فعلى المسلم ألّا يهتك ستر إخوانه، وعليه أن يمسك لسانه عن فضح الأسرار وهتك الأستار ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات