+ -

استضافت قناة الشروق في أحد برامجها حكواتيَّا من كتّاب القصص والرّوايات، والّذي عجز عن الإبداع الّذي يحقّق له النّجاح والشّهرة، فاختار الطريق الأسهل للشّهرة، وهي مصادمة الشعب بالتّطاول على رموزه ومقدساته، فراح المسكين يتّهم الصّحابي الجليل العَلَم الكبير أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه باتهامات وضيعة، مُحصّلتها ونتيجتها تكفيرُه رضي الله عنه، حيث اتّهمه هذا الحكواتي الّذي لا يعرفه قطعًا بالكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمدًا، وهذا كفر صُراح!. ثمّ اتّهمه بتحريف الإسلام وإفساده عمدًا باختراع أحاديث فيها أحكام لم ينزلها الله تعالى على نبيّه عليه السّلام!. وهذا ما لا يفعله إلّا كافر!. صدّق أو لا تصدّق!.إنّ العجب لا ينقضي من أمثال هذا الحكواتي!، فهم حين ننتقد كتاباتهم الساقطة، الّتي لا تخرج عن الجنس ومشتقاته، يقولون: هذا ليس تخصّصَكم. ولكن يأتوا هم بعد ذلك ويتكلّمون في الحديث، وفي الفقه، وفي التاريخ، وفي أصول الفقه، وفي التفسير... فإذا قلنا لهم: هذا ليس تخصّصَكم، قالوا: أنتم تحجرون على التفكير، وتحاربون التفكير الحرّ، ومن حقّ أيّ واحد أن يبدي رأيه... إلى آخر الكلام المكرور المكروه!.إنّ هذا الحكواتي وأمثاله يدلّسون على النّاس، ويحاولون الظهور بصورة المفكّر الحرّ المطّلع، الّذي أوصله البحث إلى حقائق لم يسبقه إليها سابق. وكل هذا كذب ودجل، بل هو وأمثاله يردّدون كلام غيرهم ترديد الببغاء، عقله في أذنيه!. فمن المعلوم أنّ الّذين بدأوا بتشويه أبي هريرة رضي الله عنه هم المستشرقون منذ قرون، وقد ردّ عليهم العلماء ردودًا أفحمتهم وردّتهم خائبين، ولا أظنّ هذا الحكواتي يفهم شيئًا منها؛ لأنّها مكتوبة بأسلوب علمي متين، وهو اعتاد على أسلوب روايات أدب الحداثة وما بعد الحداثة، الّذي يفسد الذّائقة الفنية لمَن يدمن عليه. وهؤلاء المستشرقون لم يهاجموا أبا هريرة رضي الله عنه لذاته وشخصه، بل هم يقصدون الطعن في السنّة النّبويّة وفي الإسلام، بتشويههم أكثر الصّحابة رواية للحديث الشّريف، وهذا ما يقصده الحكواتي وأمثاله. خاب سعيهم.وحين يدّعي هذا وأمثاله أنّ الإسلام فسد وانحرف، فهم يقصدون بذلك مخالفة قيم الإسلام النّبيلة الجليلة لِما أنتجته الحضارة الغربية المادية من نظريات فكّكَت الإنسان ودمّرت فطرته، ونزلت به إلى حضيض الإباحية والمِثلية والعنصرية والاستغلال... ذلك أنّ الانحراف إنّما يكون بمباعدة خطّ معيّن، والخط الّذي باعده الإسلام عند هؤلاء هو الفكر الغربي. ذلك أنّ هذا الحكواتي وأمثاله: الصّراط المستقيم عندهم هو ما قرّره الغربيون بلسان أعجمي!. أمّا المسلم فهو عاجز عن التّفكير لإيمانه بالقرآن العظيم والسنّة الشّريفة، ولالتزامه بحدود الشّرع وأحكامه، وانضباطه بحلاله وحرامه!، وهذه كلّها (طابوهات) تمنع التّفكير أو تفسده!. أمّا الغربي الكافر بكلّ الأديان وكلّ المبادئ وكلّ القيم إلّا المادية، فهو حرُّ التّفكيرِ سليمُه، فما يقوله هو الحقّ وما يقرّره هو الصّواب!.ويا ليت هؤلاء يقرؤون ما يكتبه الغربيون في نقد الحداثة وما بعد الحداثة وما أنتجته من فكر ونظريات، ولكنّها تتطلّب جهدًا وإمكانيات عقلية لا يتوفّرون عليها؛ ولهذا يكتفون بمطالعة الروايات الأدبية، فهي خفيفة ومُسَلية!.إنّ الله عزّ وجلّ قال وقوله الحقّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحِجْر:9، والمعنى الواضح البيّن للآية الآتي: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} هو القرآن الكريم كتاب الإسلام العظيم. {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وإنّا للقرآن لحافظون من أن يُزَاد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه. فما دام القرآن محفوظًا لا يمكن لأيٍّ كان أن يفسد الإسلام أو ينحرف به عن الحقّ أو ينتصر عليه؛ ولهذا نجد مبغضيه يعملون معاولهم في هدم السنّة والشّريعة، ولكنّهم حين يصلون للقرآن العظيم يعجزون خِزيّا، ويخضعون لتحدّيه قهرًا، وتحرق نارُ كرهِهم للإسلام قلوبَهم حرقًا، وهذا بعض معنى قول الله تعالى عن القرآن العظيم: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}، فسبحان ربّ العظيم مهما تطاولوا على السنّة النّبويّة الشّريفة سيبقون في حسرة من عجزهم وصَغَارهم أمام عظمة القرآن الكريم.إنّ المقام وحيز المقال لا يسمح بإطالة القول في التّعريف بأبي هريرة رضي الله عنه وردّ الشّبهات عنه، كما لا يكفي لإيراد الحجج القاطعة والبراهين السّاطعة على حجّية السنّة ومكانتها في الدّين الإسلامي، وقد تكفّل بذلك علماء كُثُر بسطوا القول عن هذا في مؤلّفات مشهورة متداولة، يسهل الوصول إليها لمَن يريد الحقيقة ولا يتّبع الهوى، مع أنّ أمثال هذا الحكواتي لا تنفع معهم الأدلة والحجج؛ لأنّ مشكلتهم مع الإسلام والسنّة وأبي هريرة رضي الله عنه ليست فكرية عقلية تُعالج بالنقاش والحجج، ولكنّها نفسية تحتاج إلى معالجات عند مختصين!. ومع ذلك أهديهم هذا النّصّ المتين -عسى ولعلّ- للإمام ابن حزم الأندلسيّ رحمه الله، ففيه بلاغ لمَن يحترم عقله ويخضع للحقّ ويحكم بعلم، يقول: ”لَمّا بيّنا أنّ القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشّرائع نظرنا فيه، فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووجدناه عزّ وجلّ يقول فيه واصفًا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فصحّ لنا بذلك أنّ الوحي ينقسم من الله عزّ وجلّ إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم على قسمين: أحدهما: وحيٌّ مَتْلُوٌ مُؤلّف تأليفًا مُعجز النظام، وهو القرآن. والثاني: وحيٌّ مَرويٌ منقولٌ، غير مؤلّف ولا مُعجز النّظام ولا متلوٍّ، لكنّه مقروءٌ، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو المبيّن عن الله عزّ وجلّ مراده منّا، قال الله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون}، ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا الثاني كما أوجب طاعة القسم الأوّل الّذي هو القرآن ولا فرق، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإحكام في أصول الأحكام،ج1ص96].فالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المفسّر الأوّل للقرآن، والمبيّن الأعظم لمعانيه، والشّارح الأكمل لأحكامه، وإنّ من حفظ القرآن العظيم حفظُ تفسيرِه وبيانِه وشرحِه، هذا ما لا يخالف فيه عاقل. وعليه، فالله تبارك وتعالى حفِظ الذِّكر قرآنًا وسنّة، ولا أدلّ على حفظ السنّة من علوم الحديث الدّقيقة الّتي أبدعها علماء الإسلام من أجل حفظ السنّة النّبويّة وتبليغها لنا جيلًا بعد جيل، والّتي أقرّ حتّى المستشرقون بعظمتها ودقّتها، فقال المستشرق المجري اليهوديّ مارغيليوث يقول: ”ليفتخرْ المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم”.وختامًا، ألّا يستحي هذا الحكواتي وأمثاله من الكلام فيما لا يعلمون ولا يفهمون؟!. ألّا يستحي من اتّهام أبي هريرة رضي الله عنه وهو لا يعرفه، ولم يقرأ الأحاديث الّتي رواها؟!. فلو قرأها لانْبَهَر بما حوته من علم عميق وأدب راق!. ألّا يستحي من الكلام على السنّة الشّريفة والأحاديث النّبويّة وهو يجهل علم الحديث كليّة؟!. أليس من الجهل والعيب أن يتكلّم الإنسان في أمور لا علم له بها؟!. وإذا رفض الحكواتي وأمثاله الخضوع لأحكام القرآن فأنصحه بأن يعمل بهذه الآية الكريمة: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}، فأقلّ ما يستفيده أنّه لا يفضح نفسه بالجهل على رؤوس الأشهاد!. ورضي الله عنّ أبي هريرة والصّحب الكرام على مرّ العصور والدهور.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات