+ -

لا تلتقي بأحد وتفاتحه الكلام حول حال مجتمعنا، وحال أبنائنا وبناتنا، وحال الأجيال الجديدة، وحال الأخلاق والتّربية، إلّا وألفيته يشتكي الحال، ويتشاءم من المآل، ويتأسّف على الزّمن القديم، وما كان فيه من جمال، في تذكّر للوضع كيف كان: توادّ وتعارف وتراحم وتعاون وأمان، حين كان الجيران يعيشون كأسرة واحدة، يكبر فيها الأطفال تحت رعاية الجميع ورقابة الجميع وتعاون الجميع على تربيتهم!، وتأديب المخطئ منهم مِنْ مَن حضره من الجيران، والويل للمخطئ حين يعلم والداه بذلك حيث يؤدّب مرّة أخرى دون أن يُسأل عن السّبب، وحين كان الكبير موقّرًا والصّغير محروسًا مرحومًا، والمرأة محترمة مصونة! حين كان الجميع متعاونين على محاربة المنكرات، وقمع المجرمين، وتشديد الوطأة على المنحرفين!وفي مقابل هذا تذمّر من الوضع كيف صار: تقاطع وتدابر، فلا تعارف، ولا تعاون، ولا أمان! جيران لا يعرفون بعضهم بعضًا، والويل لمَن تدخّل في أولاد الجيران وأنكر عليهم وأمرهم ونهاهم، أمّا مَن تجرّأ وأدّب أحدهم فلأمّه الهبل! واستقالة جماعية من الاهتمام بشؤون المجتمع: السّرقة وقطع الطريق جهار عيان، ولا أحد يكترث! المخدّرات تشرب تحت الشّرفات، وفي مداخل العمارات، وبجانب المساجد وعلى أرصفة الطّرقات، ولا أحد يكترث! والفسوق والعصيان (وقلّة لحيا) في كلّ مكان، ولا أحد يكترث!... الخ، وشعار الجميع (تخطي راسي) حتّى (يطيح الفاس في الراس)!كيف تحوّل الحال وتغيّر؟ لم يحدث ذلك بين عشية وضحاها طبعًا، وليس هذا نتيجة سبب واحد قطعًا، بيد أنّ من المؤكّد أنّ ذلك نتيجة تغيّر قيمنا، والتّفريط في توجيهات ديننا الحنيف! ويكفي التّنبيه على بعضها لفهم الصّورة الكلّية والمقصود من الكلام.من المعروف للجميع أنّنا فرّطنا في وصايا ديننا فيما يخصّ الجِيرة، فماذا كانت النّتيجة؟ سوء العلاقات الاجتماعية في الأحياء وما نتج عنها من انحرافات وجرائم، لقد صار الجيران في مجتمعنا كالغرباء إلّا قليلًا قليلًا، وخاصة في المدن، وأدنى خطأ وتماس يسبّب معارك، يتبعها هجر وتقاطع طويل، مع أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننتُ أنّه سيورّثه” رواه البخاري ومسلم. أي يجعل له حقّا مع الأهل والأقارب، ولكنّنا اخترنا النّموذج الغربي وعشنا به، ونريد في الوقت ذاته أن نهنأ كما عاش آباؤنا وأجدادنا، وهيهات هيهات، فلن نجني من الشّوك العنب!وكذلك فضّلنا النّموذج الغربي القائم على الفردية والحرّية الشّخصية، حيث يعيش المرء لنفسه، ويفعل ما يحلو له، ولا يهمّه شأن الآخرين بتاتًا، ومهما فُعل أمامه من منكرات فلا دخل له بها، ولن ينكرها فكلّ شخص حرّ فيما يفعل! مع أنّ القرآن العظيم يجعل من أخصّ صفات المؤمنين الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، يقول الحقّ جلّت صفاته: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وفي هذا إيماء إلى أنّه لن نصل إلى الخير إلّا إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، ويقول تقدّست أسماؤه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وهنا قدّم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على الصّلاة والزّكاة إيماء لأهمّيته وتنويهًا بشأنه، ويقول عزّت قدرته: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله}، وهنا جعل خيرية هذه الأمّة منوطة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ويقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}، وهنا نبّه على أنّ التّمكين في الأرض، الّذي يعني القوّة والازدهار، دوامه قائم على تحقيق العبودية والقيام بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.فماذا فعلنا مع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وخاصة النّهي عن المنكر، فرّطنا فيه تفريطًا كبيرًا، وتركناه كليّة، بل صرنا ننكر على مَن ينهى عن المنكر، فاستشرى الفساد، وذاع الفسوق، وشاع المنكر! وهل يجادل في هذا إلّا مكابر أو معتوه؟!إنّ أحكام الله تعالى هي بالنّسبة لنا أفرادًا ومجتمعات جدول تشغيل (catalogue) ومخالفة أيّ حكم منها يكون له آثار سلبية على حياتنا، وقد يكون تركنُا للنّهي عن المنكر خيرَ مثال تظهر نتائجه للعيان، وقل مثل ذلك في باقي الأحكام الرّبّانية الّتي فرّطنا فيها وضيّعناها، فذقنا بسبب ذلك حياة ضَنْكًا: ضَنْكًا أخلاقيّا، وضَنْكًا اجتماعيّا، وضَنْكًا أسريّا، ضَنْكًا اقتصاديّا، وضَنْكًا سياسيّا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}، ولكن أكثر النّاس لا يفقهون.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات