+ -

 ذكر ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير عن مقاتل أنه صلى الله عليه وسلم خرج من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير طريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجُحْفَةَ عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها، فأنزل الله عليه: {إن الذي فرَضَ عليك القرآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعاد} أي: إلى مكة ظاهرا عليها.جبر الخواطر وتطييب النفوس خُلق كريم، وصفة من صفات المؤمنين، بل هو عبادة جليلة سهلة وميسورة، أمر بها الدين وتخلق بها سيد المرسلين، ومما يدل على جبر الخواطر وتطييب النفوس ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رب إنهن أَضْلَلن كثيرًا من الناس فمَن تبعني فإنه مني}، وقال في عيسى عليه السلام: {إن تُعَذِّبهُم فإنهم عبادك وإن تَغفِر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}، فرفع يديه وقال: “اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنُرضيك في أمتك ولا نسوءك”.ومن صور جبر الخواطر أن المسلمين لما انهزموا في أحد وأصابهم الحزن والألم، جبر الله نفوسهم الكسيرة، وطيب خواطرهم الجريحة، وذكرهم بانتصاراتهم السابقة في بدر، وبين لهم أن ما أصابهم كان بقدر الله، فقال الله تعالى: {ولا تهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله}.وجبر الخواطر وتطييب النفوس له صور متنوعة، ومواقف متعددة في سيرة رسول الله، فها هو عليه الصلاة والسلام يجبر خاطر أحد أصحابه لما وجده حزينًا ومتألمًا على فقد أبيه، يقول جابر: لقيني رسول الله فقال لي: “يا جابر ما لي أراك منكسرًا”، قلت: يا رسول الله استشهد أبي يوم أحد وترك عيالًا ودَيْنًا، قال: “أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك”، قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: “ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كِفَاحًا، فقال: يا عبدي تمنَّ عليّ أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون”.وها هو عليه الصلاة والسلام يجبر خاطر أحد أصحابه ويطيب نفسه، لما علم منه أنه غير جميل في صورته، وشأنه وضيع بين الناس، ففي مسند أحمد أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا، كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية فيجهِّزُه رسول الله إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه”، وكان النبي يحبه، وهو رجل دميم، فأتاه النبي يومًا وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني، من هذا؟ فالتفت فعرف أنه رسول الله، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدره حين عرفه، وجعل رسول الله يقول: “من يشتر العبد”، فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدًا، فقال صلى الله عليه وسلم: “لكنك عند الله لستَ بكاسد”.وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يجبر خاطر كل كسير، فها هو يجبر خاطر الأنصار وقد وجدوا في أنفسهم أن لم يعطهم من الغنائم: “يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، وجِدَةٌ وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟” قالوا: بل الله ورسوله أمَنُّ وأفضل، قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار!” قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المنُّ والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلَصَدَقْتُم وصُدِّقْتُم، أتيتنا مكذَّبًا فصدَّقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فأغنيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار”، قال: فبكى القوم حتى أخضلت لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قِسْمًا وحظًّا.* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات