عندما يتحدث السفير السابق لفرنسا في الجزائر، المصنّف ضمن قائمة "غير المرغوب فيه"، فهو يعبّر عن صوت قطاع من المسؤولين وكوادر الإدارة الفرنسية التي تخضع للتغيير بفعل الدورة البيولوجية. وهو بذلك يكرّس التواصل بين الأجيال ويسعى إلى تسليم المشعل للخلفاء حتى ولو كان الأمر يتعلق بضغينة قديمة أو حقد دفين ضد شعب بأكمله لا يشاطره الرأي والأفكار.
خرجة دريانكور في صحيفة "لوفيغارو"، تأتي بعد أيام قليلة من نشرها مقابلة هامة مع الرئيس عبد المجيد تبون، والتي تضمنت تصريحات قوية قد لا تعجب قطاعات واسعة من النخبة الفرنسية في الحكم وملحقاته في المجتمع السياسي والإعلامي الفرنسي، خاصة فيما تعلق بالرؤية الجديدة للعلاقات بين البلدين، والتي ترى القيادة الجزائرية منذ انتخابات الرئاسة في 12 ديسمبر 2019، وجوب قيامها على أسس واضحة بعيدة عن منطق التابع والمتبوع، والسيد والعبد.. بعبارة أخرى علاقات صحية مبنية على أساس الند للند وتوازن المصالح بعيدا عن الحنين إلى الماضي الاستعماري، والذي لا يمكن التخلص برواسبه ما دامت هناك أفاع تنفث السموم وتحاول من حين لآخر عبر بث فحيحها في آذان بعض المسلوبين فكريا وإيديولوجيا، ممارسة التأثير وزرع الأمنيات بتغييرات قادمة تعيد لملمة الأجزاء المنكسرة وجبرها، هو ما صار ضرب من ضروب الخيال.
دريانكور السفير الفرنسي السابق، الذي كان اسمه يتردد في جلسات المحاكم الجزائرية لدوره في ممارسات مخالفة للأعراف الدبلوماسية واحترام أخلاقيات اللباقة عن البلد المضيف، يؤكد توقف عقارب الساعة لديه عند تاريخ مغادرته الجزائر مطأطئ الرأس، مصابا بخيبة أمل من شعب لم يساير مشروعاته المدمرة والأطماع التوسعية بعنوان استعمار جديد ينطلق من "أوهام" شراء عقول الشباب الجزائري بأمنيات الحياة الكريمة، بواسطة البقاء تابعا لأوهام لم تعد قادرة على ضمان احتياجات مواطنيها بفعل التبعية للمظلة الأجنبية، والرعب الذي يسكنها من تنامي قوة جيرانها!
دريانكور يؤكد مرة أخرى نظرة اللوبي الذي يحن لممارسات الاستعمار، غير متقبلا نبرة جزائرية تكشف "عورة عرابي الفترة الانتقالية" لتكريس مشروع لا تعرف عواقبه، متجاهلا صحوة وانتفاضات لن تنطفئ في إفريقيا التي استباحت شعوبها وثرواتها بدون وازع أخلاقي أو تأنيب ضمير، مستغلة العباد والأرض، بعنوان امبراطوريتها "فرانس أفريك" المنهارة.. والشواهد كثيرة وهي ماثلة في أقطار قرر شبابها نفض الغبار عنهم، واستعادة ثرواتهم المنهوبة.
نقطة أخرى تقرأ بين سطور مقالة السفير الفرنسي السابق في الجزائر، وهي الوجع الذي ينتاب فلول الاستعمار الجديد عندما يتعلق بالملفات المتصلة بمسألة الذاكرة، والتي قد تكون سببا في تأخر معالجة شظاياها، بالتماطل وإيجاد المبررات، مستغلة الأزمة الاقتصادية والمالية التي تضرب فرنسا منذ سنوات، والتي دفعتها لتدبير مخططات لضرب وحدة الجزائر واستقرار مؤسساتها، من خلال محاولة استغلال الحراك الشعبي السلمي وتوجيهه لخدمة مصالحها، وهي مخططات سهر الدبلوماسي المذكور تنفيذها منتهكا بذلك حدود مهامه كدبلوماسي في بناء جسور التلاقي وليس ضرب الاستقرار ونشر الفوضى!
ولا يعرف لحد الآن السبب الذي يجعل باريس لا تعلن عن فريق المؤرخين المكلفين بمناقشة ملفات الذاكرة، لحد الآن، بالرغم من أن إعلان الجزائر المتوج لزيارة ماكرون في أوت الماضي نص على تشكيله قبل نهاية 2022!
كما أن الغاز الجزائري، لن يكون أبدا هدية مجانية، وهو ما أكده الرئيس تبون في مقابلته مع "لوفيغارو".. ولن تكون التأشيرة جزرة لبيع المواقف أو الذمم، على اعتبار أنها مكرسة في الاتفاقيات الثنائية المبرمة بين البلدين منذ اتفاقيات إيفيان.
ولن تتنازل الجزائر عن حقها في المطالبة بتطهير المناطق المدمرة بفعل التفجيرات النووية في الصحراء، ولن تتنازل عن مطلب التعويض والتكفل بالضحايا، وهو واحد من المسائل الخلافية بين الدولتين، إلى جانب أخرى لا تقل أهمية عنها وفي مقدمتها استرجاع الأرشيف الوطني.
ختاما، تجدر الإشارة إلى أن خرجة السفير الفرنسي السابق الإعلامية، تؤكد مرة أخرى عدم استسلام أعداء أي تقارب بين الشعبين الجزائري والفرنسي على أساس الاحترام المتبادل وحسن الجوار، والبناء على المصالح المشتركة الكثيرة، والروابط التاريخية والإنسانية التي نسجت عبر مختلف الحقب بحلوها ومرّها، خاصة بالنظر إلى التفاهم المسجل بين رئيسي البلدين ومستوى التنسيق بينهما في الشؤون الأمنية والجهود المشتركة لضمان الاستقرار في المنطقة المتوسطية والإفريقية.