ربورتاجات

قطارات الضاحية تسير عكس عقارب الساعة

في محطات زرالدة، البليدة، بئر توتة، وآغا، تتشابه الحكايات؛ مواعيد غير مضبوطة، طوابير انتظار طويلة، ومسافرون يشتكون من فقدان المعلومة الدقيقة حول توقيت الانطلاق.

  • 955
  • 5:14 دقيقة

من محطة قطار إلى أخرى، تتكرر الحكاية ذاتها كل صباح.. تأخر، تذمّر، وانتظار بلا نهاية. "الخبر" رافقت مرتادي قطارات الضاحية الغربية في رحلة شاقة انطلقت من محطة بوفاريك، لتروي تفاصيل معاناة تبدأ مع أول صافرة قطار، ولا تنتهي إلا مع آخر محطة.

على رصيف المحطة، يقف سليم، أحد العمال المتوجهين إلى العاصمة، وعلامات القلق بادية على وجهه.. ينظر إلى ساعته اليدوية التي كانت تشير عقاربها إلى الثامنة و35 دقيقة، يلتفت يمينا، ينتظر ظهور رأس القطار القادم من الجهة الغربية، بينما يحرك قدميه من شدة التوتر. القطار القادم من محطة العفرون تأخر مجددا، ولا أحد من أعوان المحطة يملك المعلومة الدقيقة عن موعد وصوله.

مع مرور الدقائق، بدأت المحطة تمتلئ شيئا فشيئا بالمسافرين، أغلبهم اقتنوا تذاكرهم وبقوا في الانتظار، كأنهم "رهائن للوقت"، بينما فضّل بعضهم مغادرة المكان نحو المحطة البرية الواقعة في أقصى الطرف الآخر من مدينة بوفاريك، في حين استسلم آخرون لـ "سائق الأجرة الكلونديستان"، ليدفعوا الثمن غاليا، لا لشيء سوى للوصول إلى مناصب عملهم في الوقت المحدد.

بعد نحو ساعتين من الانتظار الممل، دوّى صفير القطار المنتظر أخيرا، لتتعالى معه أنفاس الركاب المكتومين أملا في الخلاص من رصيف أثقلته الدقائق. لكن فرحتهم سرعان ما تبخرت عند رؤيتهم المشهد: عربات مكتظة عن آخرها، أجساد متلاصقة، وأبواب أوتوماتيكية تعجز عن الإغلاق من شدة الزحام. ارتفعت الأصوات وتدافعت الأجساد، فيما حاول بعضهم التمسك بمقابض الأبواب حتى لا يُتركوا على الرصيف.

وفي محاولة لاحتواء الفوضى، جاء صوت السائق عبر مكبر الصوت متوترا: "من فضلكم، دعوا الأبواب تُغلق حتى نتمكن من الانطلاق."

تحرّك القطار أخيرا وسط تذمر الركاب وتمايلت أجسادهم مع اهتزاز العربات، حتى بدا المشهد كأن الحشود البشرية ستتساقط كأحجار الدومينو في فضاء ضيق وخانق.

لكن رحلة العناء لم تنته بعد.. فقبل الوصول إلى محطة بئر توتة، دوّى إعلان السائق مجددا، وهذه المرة حمل خيبة جديدة: "الرحلة لن تتواصل إلى محطة الجزائر... آخر محطة ستكون جسر قسنطينة، أنصحكم بالنزول وانتظار القطار الموالي". ارتفعت الهمهمات بين الركاب، وتبادلوا نظرات الغضب والإنهاك، فيما تساءل البعض: إلى متى تظل رحلات الضاحية مغامرة تبدأ كل صباح بلا ضمانات للوصول؟

بعض الركاب لم يحتملوا المشهد، فاختاروا النزول على أمل الظفر بمكان أهدأ في قطار أقل ازدحاما، بينما فضل آخرون البقاء داخل العربات، يواجهون حرارة خانقة وهواء يكاد يُختنق من قلّته، يتشبثون بالأمل أن يتحرك القطار أخيرا.

وبينما كانت الأنفاس تتصاعد بتثاقل في الفضاء الضيق، انطلقت الصافرة معلنة مغادرة محطة بئر توتة. دقائق فقط، حتى اخترق صوت السائق المتعب مكبر الصوت قائلا: "نعتذر من زبائننا الكرام عن هذا التأخر الخارج عن نطاقنا.. الرحلة ستتواصل إلى محطة حسين داي، محطة نهاية السفر."

كلمات بسيطة، لكنها كانت كفيلة بإذابة توتر الساعتين الماضيتين. ارتسمت ابتسامات خفيفة على وجوه الركاب، وتبادل البعض نظرات ارتياح صامتة، وكأنهم خرجوا من امتحان طويل وصعب.

عند الساعة 11 والنصف، توقّف القطار أخيرا في محطة حسين داي. نزل الركاب الذين كانوا يأملون الوصول إلى محطة الجزائر، ليجدوا أنفسهم من جديد أمام مشهد مألوف: انتظار قطار آخر يُكمل ما تبقى من الرحلة.

وبينما كانت عقارب الساعة تشير إلى 11 و55 دقيقة، ظهر القطار المنتظر أخيرا.. لتستأنف الحكاية من جديد، وكأن الزمن في قطارات الضاحية يسير على إيقاع خاص به، لا يعترف بعجلة الركاب ولا بتعبهم.

القطارات في واد والإدارة في واد آخر

في تلك الأثناء، وبينما كانت الهمهمات تملأ عربات القطار المتعب، أخرج أحد الركاب هاتفه النقال بملامح يائسة، باحثا عن تفسير في الفضاء الرقمي لما عجز عنه عمال المحطة الواقعية. توجه مباشرة إلى الصفحة الرسمية للمؤسسة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية على منصة "فايسبوك"، أملا في أن يجد ما يبرر التأخر أو يطمئنه على الأقل عن رحلة العودة إلى الديار في الفترة المسائية. لكن ما إن تصفح الصفحة حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة، امتزج فيها الغضب بالاستغراب، وقال بنبرة تهكم: "القطارات في واد، والشركة في واد آخر..". أدار شاشة هاتفه نحو زميله الجالس بجانبه قائلا: "انظر.. آخر منشور لهم يتحدث عن خدمة إلكترونية جديدة لحجز تذاكر القطارات! بينما نحن هنا نكاد نختنق في عربات متوقفة منذ ساعات". تبادل الراكبان نظرات صامتة حملت الكثير من المعاني، وكأنهما اختصرا في تلك اللحظة المسافة الطويلة بين الوعود الرقمية والواقع المهترئ على السكة.

معاناة يومية تتكرر

مشهد بوفاريك ليس سوى عينة من معاناة يعيشها يوميا آلاف المواطنين عبر الضاحيتين الغربية والشرقية للعاصمة، حيث تتكرر التأخيرات في مواعيد القطارات بشكل لافت، لتتجاوز في بعض الأحيان الساعات، ما يتسبب في اكتظاظ رهيب داخل العربات وتعطل مصالح المسافرين.

في محطات زرالدة، البليدة، بئر توتة، وآغا، تتشابه الحكايات؛ مواعيد غير مضبوطة، طوابير انتظار طويلة، ومسافرون يشتكون من فقدان المعلومة الدقيقة حول توقيت الانطلاق. يقول أحد الركاب: "نغادر منازلنا قبل الفجر كي لا نتأخر عن العمل، لكننا نقضي ساعات ننتظر قطارا لا يأتي في موعده…حياتنا أصبحت رهينة المواعيد غير المنتظمة."

الشركة تبرّر والمواطنون يشتكون

تُرجع الشركة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية الاضطرابات إلى أسباب مختلفة، الأسبوع الماضي، بسبب سقوط عمود كهربائي في المقطع الرابط بين محطتي الورشات وحسين داي والذي تطلب 4 أيام لإعادة إصلاحه، وقبلها سُجل تذبذب في الرحلات بسبب انحراف قطار بالضاحية الغربية، ونفس الحادث تكرر يوم الاثنين الماضي أين انحرف قطار لنقل السلع في المقطع الرابط بين محطتي بني مراد والبليدة، وفي الكثير من الأحيان بسبب أشغال صيانة وتجديد السكة الحديدية على بعض المقاطع. لكن المواطنين يرون أن هذه التبريرات لم تعد تقنع أحدا، ويطالبون ببرمجة الأشغال في أوقات الليل أو خارج فترات الذروة لتفادي شلّ الحركة اليومية.

تقول سيدة في العقد السادس من العمر: "هذا الخلل المتكرر في نظام النقل بالسكك الحديدية لا يضر فقط بمصالحنا كمواطنين، بل ينعكس أيضا على الإنتاجية الوطنية، إذ يُجبر آلاف العمال والطلبة على التأخر عن مواعيدهم، مما يؤثر على السير الحسن للمؤسسات العمومية والخاصة.

يعقب على حديثها رجل مسن، بدت على ملامحه علامات الوقار وتجاعيد السنين التي تحكي عمرا طويلا من التجارب، وقال بصوت هادئ يختلط فيه الحنين بالأسف: "في سبعينيات القرن الماضي كنت أدرس في روسيا، وكنت أستعمل القطار يوميا.. قطعت به أغلب المدن الأوروبية، ولم يحدث أن تأخر ولو مرة واحدة عن موعده. كان الانضباط هناك أشبه بالعقيدة، حتى صار الناس يرددون مثلا شعبيا لا يُنسى: "القطار لا ينتظر أحدا. عليك أن تكون في الوقت." صمت الرجل، ثم أضاف بنبرة حزينة: "أما اليوم، يبدو أننا نحن من ننتظر القطار... والوقت هو من يسخر منا."

وحتى نكون منصفين، فإن جزءًا من المسؤولية لا يقع فقط على عاتق الشركة، بل أيضًا على بعض الزبائن الذين يساهمون، عن غير قصد، في تفاقم الاضطرابات. فالبعض يُعيق إغلاق الأبواب الأوتوماتيكية في انتظار صديق أو قريب لم يصل بعد، وآخرون يركبون دون تذاكر. أما الاعتداءات المتكررة على القطارات ورشقها بالحجارة، وسرقة الكوابل، فهي جرائم تترك آثارًا مباشرة على سير الرحلات، وتُجبر المؤسسة على تحويل عربات كاملة إلى الورشات للصيانة، ما يزيد من تعطيل المواعيد ويعمّق الأزمة.