اسلاميات

توحّد تَسُد!!

الاستعمار الغربي حرص الحرص كله على تفريق الأمة الإسلامية، وضرب بعضها ببعض، وقد ترك لنا تركة نتنة من التفرق والتنازع والتقاطع

  • 289
  • 4:28 دقيقة
الدكتور يوسف نواسة
الدكتور يوسف نواسة

إن الدول الاستعمارية الغربية في استعمارها المباشر التقليدي القديم أو استعمارها غير المباشر الجديد تعمل بمقتضى المبدأ الرومانيِ المعروف: (‌فَرِّقْ ‌تَسُدْ)!، هل هذا اكتشاف؟، أو إذاعة سرّ؟، لا والله، هذا أمر معلوم مشهور، يعرفه الجميع، ويتكلم به الكثير، فمن ذا الذي لا يزال غافلا أو غبيا أو غِرا لا يعرف سياسة الاستعمار هذه؟!، وهي سياسة قديمة استعملها الأوربيون للسيطرة على شعوب العالم، ونهب ثرواتهم، وسرقة مقدراتهم منذ قرون عدة، ولا يزالون يستعملونها، والظاهر أنها لا تزال ناجعة محققة لأهدافها!.

بيد أن نجاحها ليس لأن مبدأ (فرّق تسُد) مبدأٌ لا يمكن مقاومته، ولا يمكن الانتصار عليه، ولا يمكن التحرر من سطوته، بقدر ما هو في غباء الشعوب المستعمَرة [أي وجود أغبياء منها]، التي تعلم أن عدوها يفرقها ليسود عليها، وليتحكم فيها، وليضعفها بطبيعة الحال حتى تبقى تحت نفوذه وسيطرته واستغلاله، ومع ذلك تجدها سريعة إلى أسباب الفرقة والشقاق والنزاع، مخلصة غاية الإخلاص في اتباع هذا المبدأ الاستعماري، حريصة الحرص كله على تطبيق خطط التفرقة التي يضعها المستعمِر بإتقان وتفان!. وبقدر ما يوجد فيها من الخونة والمأجورين أيضا، الذين لهم استعداد غريزي لبيع كل شيء، حتى الدين والوطن والكرامة من أجل لعاعة من لعاعات الدنيا، يتفانون في تفريق الأمة وتمزيقها بمختلف الوسائل مقابل دولارات أو يوروهات معدودة!.

إنه لولا تفرق الدولة العباسية لدويلات لما غزاها المغول من الشرق والفرنجة من الغرب، ولولا انقسام الأندلس إلى أكثر من اثني عشرة إمارة في شبه جزيرة [إسبانيا والبرتغال = شبه جزيرة أيبيريا] في ذلك الحيز الجغرافي الضيق لما نجحت حروب الاسترداد النصرانية ولما ضاعت الأندلس، ولولا انقسام الأمة في الزمن الأخير إلى دويلات متنافسة وغير متعاونة لما حدث الاستعمار الأوربي الوحشي، الذي سقطت فيه الدول العربية والإسلامية دولة تلو دولة، وأحيانا كثيرة بعد صراع بينها يغذيه المستعمِر، بدعم الطرفين المتنازعين لإنهاكهما، فيسهل ابتلاعهما بعد ذلك، والحق أن الأوربيين اتقنوا سياسة (فرق تسُد) ووجدوا المسلمين مرحبين بهذه السياسة، فاستغلوها أبشع استغلال، وحققوا مآربهم، وأشبعوا أطماعهم على أكتاف الأخوة الألداء المتفرقين!.

إن الاستعمار الغربي حرص الحرص كله على تفريق الأمة الإسلامية، وضرب بعضها ببعض، وقد ترك لنا تركة نتنة من التفرق والتنازع والتقاطع، وذلك ظاهر في مسارين مختلفين: المسار الأول: تفكيك العالم الإسلامي إلى دويلات وإمارات برسم خطوط الحدود بين (سايكس - بيكو)، التي صارت حدودا مقدسة، يجتازها الغربيون بحرية مطلقة، ولا يحق لأي عربي أو مسلم أن يمر من دون إذن وتأشيرة!. والعجب أن المسلمين صاروا يتعدون حدود الله تعالى بجرأة وعرامة ولكن يستحيل أن يتعدوا حدود سايكس - بيكو مهما حصل!: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}. والمسار الثاني: هو قتل روح الأمة الواحدة فينا، بإثارة النزعات القومية والعرقية والقبلية والطائفية والعصبية المختلفة، ومن مكرهم أن فصّلوا حدود سايكس - بيكو على وفق التوزيع الديموغرافي للأعراق والطوائف، حيث أن الدول القطرية العربية والإسلامية غالبا ما تشمل عرقيات مختلفة موزعة بين هذه الدول، وانظرها من شرقها لغربها: تجد صراعات بين الترك والكرد، والأوزبك والطاجيك، والعرب والتركمان، والكرد والعرب، والزنوج والبيضان، والعرب والبربر... وكلها نزعات جاهلية كانت تثور على استحياء قبل قدوم الغربي، الذي نفخ فيها من شرّه، وغذاها بدراسات شبه علمية، وأقام لأجلها أكاديميات استخباراتية [كالأكاديمية البربرية في باريس] لتتحول من نزغات جاهلية حمقاء إلى نظرات علمية جهلاء!، ولتكون الدول العربية والإسلامية على شقوق ديموغرافية عرقية خطيرة إذا تحركّت -أو بالأحرى: حركها الغربي المستعمِر- النزعة الجاهلية من تعصب للعرقيات أو الطائفة تزلزلت تلك الحدود، وتزلزلت تلك الدول، وتزلزلت تلك الشعوب، ودفعت أثمانا باهظة، وازداد المستعمِر التقليدي بالأمس نفوذا وسيطرة على قرار الدول العربية والإسلامية، وهيمنة على اقتصادها ومقدراتها تحت مظلة الاستعمار الجديد، وما هو إلا استحمار!، ولكن أكثر الناس لا يفهمون!.

إننا حين نقول ونؤكد ونكرر ويصدقنا الواقع: الإسلام هو الحل، لا نعني بذلك الحل للمشاكل الأخلاقية والاجتماعية فقط، بل الحل الشامل لكل مشاكلنا، من المشاكل الأخلاقية السلوكية اليومية (إماطة الأذى من الطريق) إلى المشاكل الحضارية الوجودية. ولنترك خلفياتنا ولننظر بعين العقل: سنرى أن الأمة الإسلامية العربية ذات تاريخ مشترك، ومقومات مشتركة، ومصير مشترك، وسنرى الغرب -وهو أضعف منا مقدرات وثروات، وأسوأ منا موقعا استراتيجيا- متسلطا علينا متحكما فينا، وسنرى أن هذه السيطرة سببها تفرقنا أساسا ووجود خونة فينا، وبعضهم هو الآمر الناهي في بلده، وسنرى من ذلنا وضعفنا أننا عجزنا عن إدخال قنينة ماء صغيرة إلى غزة، وعن وقف إبادة جماعية همجية علنية تبث مباشرة على فضائيات العالم... وسنرى الأمة مفرقة ضعيفة تثق في رأي المستشارين الغربيين أكثر من ثقتها في كلام ربها تعالى، بَلْهَ آراء المصلحين من أبنائها، وكل هذا بسبب أننا فقدنا روح الأمة الواحدة، فصرنا كالثور الأبيض والأسود والأحمر [أو الحمار الأبيض..] ننتظر دورنا في التقسيم والتهديم، يخذل بعضنا بعضا، والغرب يدمر دولة تلو أخرى، ونحن ملتزمون بالوقوف في طابور الانتظار نتفرج بشكل غريب، كحال المواشي في المذبح!؛ لأن دول الاستكبار العالمي أقنعتنا أن تفرقنا أفضل لنا، وتوحدنا خطر علينا!.

إنه وضع (كوميدي)، كارثي، تركنا توجيهات الإسلام الربانية الحضارية، واتبعنا نظريات الغرب الملحدة وسياساته المفسدة، فذقنا الوبال ولا نزال، قال لنا ربنا سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، فعصينا، وأطعنا الغرب طاعة عمياء، قال لنا: تفرّقوا، فتفرقنا وقلنا: لبيك، لبيك!. وقال لنا ربنا سبحانه: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، فعصينا، وأطعنا الغرب، قال: أنتم أمم متعددة، ويجب أن تكون دولكم مفرقة مشتتة، فرفعنا راية القوميات وقدسنا حدود سايكس – بيكو، وقلنا: لبيك، لبيك!. وقال لنا ربنا سبحانه: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، فعصينا، وأطعنا الغرب، الذي قدم دراسات (علمية) تثبت أننا أجناس مختلفة وبعضنا أفضل من بعض، فتعصب كل منا لعرقه، الذي هو غير متأكد من نسبته إليه؛ لأن شعارنا مع ما يقوله الغرب: لبيك، لبيك!... إن الصورة واضحة لكل ذي عقل: شعار الغرب: فرّق تسُد، وعقيدة الإسلام: توحّد تسُد. وواقعنا يحدده لمن نقول: لبيك، لبيك!.

*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة