تشهد فرنسا واحدة من أخطر أزماتها السياسية في عهد الجمهورية الخامسة، حيث يبدو الرئيس إيمانويل ماكرون معزولا بشكل غير مسبوق، بينما تتكشف أبعاد متعددة لأزمة تهدد الاستقرار الداخلي وتثير القلق في المحيط الأوروبي. هذه الأزمة ليست مجرد صراع حزبي عابر، بل هي انعكاس لتحولات عميقة تؤشر على أزمة النسق السياسي الفرنسي وانهيار "الماكرونية".
من منظور نظرية النظم، يشهد النظام السياسي الفرنسي حالة من "الخلل الوظيفي" الحاد، يتجلى في فشل حزب "الجمهورية إلى الأمام" في أن يصبح قطبا مركزيا مستقرا، تاركا الساحة لمشهد حزبي "مثلث الأقطاب" (الوسط الماكروني، اليمين المتطرف، اليسار الراديكالي) يتسم بعدم الاستقرار وعدم القدرة على تشكيل أغلبية حاكمة، وهو ما أبرزته الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة في 2024 كاستراتيجية لـ"المخاطرة المحسوبة" التي تحولت إلى فخ دمر ما تبقى من أغلبية رئاسية وأسفرت عن برلمان "ممزق" يعكس "تشرذم الإرادة الشعبية" ويعطل آلة صنع القرار.
تشريح الخريطة السياسية: صراع لا يحسمه منتصر
وتظهر الخريطة السياسية حالة من "الجمود الاستراتيجي" على أساس مربع ممثل في كتلة الوسط (الماكرونية) التي تعاني من نزيف داخلي، حيث يعلن حلفاء سابقون مثل إدوار فيليب وغابرييل أتال انشقاقهم العلني، مطالبين برحيل الرئيس، وهو ما يشير إلى "أزمة شرعية" شخصية وسياسية عميقة، ثم التجمع الوطني (اليمين المتطرف) الذي يرفض أي تفاوض ويصر على مطلبين هما حل الجمعية الوطنية أو استقالة الرئيس، مستفيدا من الأزمة لتقديم نفسه كبديل وحيد لنظام "فاشل"، ثم الضلع الثالث ممثلا في تحالف اليسار (فرنسا الأبيّة والخضر) الذي يرفض بدوره التفاوض مع النظام ويدعو إلى "برنامج قطيعة" ويواصل المطالبة باستقالة ماكرون، ما يعكس "تصلبا أيديولوجيا" يغلق أبواب التسوية، وأخيرا أحزاب الوسط التقليدي (الجمهوريون)، وهي الكتلة التي تقدم مقترحات "تعايش" مشروطة بعدم "تمييع" هويتها، لكنها تفتقر إلى الكتلة الحرجة أو الإرادة السياسية لكسر الجمود.
هذا المشهد هو النموذج الأمثل لنظرية "لعبة محصلتها صفر"، حيث يعتقد كل فريق أن أي مكسب للآخر هو خسارة له، ما يجعل التعاون مستحيلا. ويتجلى ثمن الجمود الذي يعتري النسق السياسي الفرنسي في التداعيات الاقتصادية والاجتماعية، فالارتدادات الاقتصادية للأزمة بدأت تظهر، حيث أعرب رئيس اتحاد أصحاب العمل "ميديف" عن "الاستياء والقلق". يؤكد تحليل العلاقات الدولية أن استقرار القوى العظمى محوري للاستقرار الإقليمي. تصريح رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد بأن الهيئات الأوروبية "تراقب عن كثب" الوضع في فرنسا، الذي يشكل مصدر "قلق" كبير، هو مؤشر على أن الأزمة الفرنسية لم تعد شأنا داخليا. الجمود السياسي يعرقل إقرار الموازنات ويؤجل الإصلاحات الاقتصادية الطارئة، ما يهدد التصنيف الائتماني لفرنسا ويزيد الأعباء على الاقتصاد الأوروبي الهش أصلا.
وعلى صعيد العلاقات الدولية، تضعف قدرة فرنسا على لعب دورها التقليدي كلاعب رئيسي في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو عندما يكون رئيسها مشغولا بالصراع على البقاء وحكومته معطلة. الأزمة الداخلية تستنزف رأس المال السياسي لفرنسا وتقلل من وزنها في المفاوضات الدولية، من ملف أوكرانيا إلى التنافس مع القوى العالمية الصاعدة.
وتبقى الأزمة الفرنسية أكثر من مجرد أزمة حكومة عابرة، إنها اختبار لمرونة نموذج الجمهورية الخامسة في مواجهة حقبة جديدة من التعددية الحزبية القطبية، وتبدو المفاوضات "الأخيرة" التي يكلف بها لوكورنو محاولة يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فشلها قد يدفع بماكرون إلى خيارات أكثر خطورة، مثل حل البرلمان مرة أخرى، ما قد يزيد الوضع تعقيدا. المشهد يقترب من نقطة اللاعودة، حيث أصبح السؤال الملح: هل تستطيع المؤسسات الفرنسية الصمود أمام هذا العاصف السياسي؟ أم أن النظام على وشك دخول مرحلة تحول تاريخية؟ الإجابة تكمن في الأيام القليلة المقبلة، التي ستحدد مصير فرنسا وأوروبا.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال