العالم

قراءة في المخطط الأمريكي لإعادة هندسة غزة

تشهد الأوضاع في غزة تطورات بالغة التعقيد في ضوء المقترح الأمريكي الجديد الذي أعلنه الرئيس دونالد ترامب نهاية سبتمبر الماضي، حيث تتفاعل أبعاد جيوسياسية واستراتيجية متشابكة في ظل تصاعد المواجهات واستمرار المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطيني.

  • 1972
  • 4:09 دقيقة
الرئيس الأمريكي، دوالد ترامب، الصورة: ح.م
الرئيس الأمريكي، دوالد ترامب، الصورة: ح.م

في أواخر سبتمبر، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطة موسعة لقطاع غزة، تُقدم ظاهريا كبادرة إنسانية لإنهاء الحرب العدوانية وتحسين الأوضاع، لكن تحليلها يكشف عن فخ سياسي متقن يخدم الأجندة الصهيونية ويضع المقاومة وحركة حماس والفصائل الفلسطينية في مأزق استراتيجي.

الخطة، التي تجمع بين إغراءات إعادة الإعمار وشرط نزع السلاح، تهدف إلى تحويل غزة إلى كيان منزوع السلاح تحت وصاية دولية تهيمن عليها شخصيات موالية للاحتلال، مثل توني بلير ومارك روان.

 وتشهد الأوضاع في غزة تطورات بالغة التعقيد في ضوء المقترح الأمريكي الجديد الذي أعلنه الرئيس دونالد ترامب نهاية سبتمبر الماضي، حيث تتفاعل أبعاد جيوسياسية واستراتيجية متشابكة في ظل تصاعد المواجهات واستمرار المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطيني.

 وتمثل الخطة محاولة لإعادة هندسة المشهد الجيوسياسي في غزة عبر آليات متعددة، منها تفكيك البنية العسكرية للمقاومة، حيث يشكل نزع السلاح شرطا أساسيا للخطة، ما يهدف إلى تجريد المقاومة من أدواتها الرادعة، فضلا عن الوصاية الدولية مع "لجنة السلام" المقترحة، التي يهيمن عليها حلفاء الكيان، التي ستتحكم بقرارات مصيرية، ما يفقد الفلسطينيين سيادتهم على أراضيهم، وأخيرا السيطرة الاقتصادية، حيث إنه رغم الحديث عن مناطق اقتصادية خاصة، تبقى السيطرة على المعابر والحدود بيد المحتل، ما يحول غزة إلى كيان تابع اقتصاديا.

 وتمثل الخطة تطبيقا لنظرية الهيمنة (Hegemony) في العلاقات الدولية، حيث تستخدم الولايات المتحدة نفوذها لفرض حلول تخدم حليفها الصهيوني، كما تعكس "القوة الناعمة" عبر تقديم إغراءات اقتصادية وإعادة إعمار، لكنها مقترنة بشروط تفرض الإذعان. من ناحية أخرى، يكشف رد المقاومة وحماس الذكي عن تطبيق "الواقعية الجديدة" (Neorealism)، حيث استخدمت المرونة التكتيكية لتجنب العزلة الدولية مع الحفاظ على ثوابتها.

 ويكمن الهدف الخفي في الخطة في شرعنة الوجود الصهيوني وتفكيك المقاومة، فالخطة ليست محايدة، بل صممت لتحقيق أهداف صهيونية محددة، على غرار إضعاف المقاومة وحماس دوليا، عبر تصويرها كعائق للسلام، وتبرير استمرار الوجود العسكري الصهيوني في غزة، وكذا تحييد الدعم الدولي المتصاعد للقضية الفلسطينية، لاسيما مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية والمكاسب الدبلوماسية المحققة وكذا الزخم الشعبي الغربي لصالح غزة.

 ويتضح أن رد المقاومة وحماس، الذي رحب به ترامب بشكل مفاجئ، قلب المعادلة، مع الموافقة على تسليم الأسرى وكذا إدارة غزة لهيئة تكنوقراط فلسطينية، لكنها رفضت بشكل غير مباشر نزع السلاح أو الخروج من المشهد السياسي، هذه المناورة حولت الخطة من فخ إلى اختبار للنيات الصهيونية والأمريكية. وتتجلى السيرورة المسجلة في معركة إرادات على أنقاض غزة، فيما تمثل خطة ترامب محاولة لاستغلال المأساة الإنسانية في غزة لإعادة تشكيل الواقع لصالح الكيان.

لكن الذكاء السياسي للمقاومة وحماس في الرد والانقسام الصهيوني الداخلي وتصاعد الضغوط الدولية قد تحول هذه الخطة من أداة هيمنة إلى منصة للمناورة. الرهان الآن على قدرة الفلسطينيين على تحويل هذه اللحظة إلى فرصة لإنهاء الحرب دون التنازل عن الحقوق الأساسية.

 المقترح الأمريكي: بين المظهر الإنساني والأهداف الخفية

يأتي المقترح الأمريكي في سياق الضغوط الدولية المتزايدة على الكيان الصهيوني بسبب الخسائر المدنية الكبيرة في غزة.

وقد تضمنت الخطة ثلاثة محاور رئيسية: وقف العمليات العسكرية وإطلاق سراح الأسرى وإعادة إعمار القطاع. لكن القراءة المتأنية تكشف أن المقترح يمثل فخا سياسيا متقنا يخدم أهدافا إسرائيلية محددة، حيث يشترط نزع سلاح المقاومة وتسليم إدارة القطاع لهيئة تكنوقراطية تحت إشراف "مجلس السلام" الدولي الذي يضم شخصيات مثل ترامب وتوني بلير.

 نموذج بول بريمير: إعادة هندسة الواقع الفلسطيني

يبدو أن المقترح الأمريكي يستلهم نموذج بول بريمير الذي طبق في العراق، حيث شغل منصب الحاكم المدني للعراق بصفته رئيس سلطة التحالف المؤقتة وذلك خلال الفترة من منتصف ماي 2003 حتى جوان 2004، في أعقاب غزو الولايات المتحدة للعراق واحتلاله.

ففي البداية، عيّنه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في 6 ماي 2003 رئيسا للإدارة المدنية المكلّفة بالإشراف على إعادة إعمار العراق، خلفًا للجنرال المتقاعد جاي غارنر، مدير مكتب إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية، الذي كان يعمل تحت إشراف وزير الدفاع الأمريكي آنذاك دونالد رامسفيلد.

وفي جوان من العام ذاته، تم تحويل المكتب إلى كيان رسمي يُعرف بـ"سلطة التحالف المؤقتة"، ليصبح بريمر رئيس السلطة التنفيذية الأعلى في العراق.

 ومن ثم يتم السعي إلى إعادة هندسة الواقع الفلسطيني عبر تفكيك البنى السياسية والعسكرية القائمة، وهذا يتجلى في الشروط التي تهدف إلى إضعاف المقاومة وإخراجها من المشهد السياسي، مع الإبقاء على السيطرة الإسرائيلية على المعابر والمناطق الحدودية.

 الرد الفلسطيني: براغماتية سياسية وثبات على الثوابت

أظهرت ردود الفعل الفلسطينية براغماتية سياسية ملحوظة، حيث رحبت المقاومة وحماس بالمقترح بشكل تكتيكي مع الإصرار على الثوابت الوطنية، وقد نجحت في نسف العديد من البنود الإشكالية عبر صياغة دبلوماسية ماهرة، حيث ربطت تسليم الأسرى بوقف القصف والانسحاب الصهيوني وأصرت على أن تكون الإدارة الجديدة منتجة عن التوافق الوطني الفلسطيني.

 تأتي هذه التطورات في سياق الصراع الإقليمي الأوسع، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز نفوذها في المنطقة عبر هذه المبادرة، بينما تحافظ الدول العربية الوسيطة - خاصة مصر وقطر - على دور محوري في الوساطة.

 بالمقابل، تبقى الكارثة الإنسانية في غزة هي الحقيقة الأكثر إلحاحا، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى تدمير 78% من المباني وتضرر 98.5% من الأراضي الزراعية، فيما يعاني السكان من المجاعة والنزوح.

وقد قدرت تكاليف إعادة الإعمار بعشرات المليارات من الدولارات، مع حاجة القطاع إلى سنوات عديدة للتعافي. رغم الغموض الذي يلف المقترح الأمريكي، يبقى السؤال الأهم هل تمثل هذه التطورات منعطفا حقيقيا نحو تسوية دائمة، أم أنها مجرد جولة جديدة في صراع طويل الأمد؟ الإجابة تبدو مرهونة بقدرة الأطراف المختلفة على تجاوز حسابات المكاسب الآنية والوصول إلى حل يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني ويحقق السلام العادل والدائم.

لمعرفة المزيد حول هذه المواضيع