مجتمع

هل كنت تعرف أن قسنطينة بها أنفاق؟

معظمها أغلقه الاستعمار الفرنسي.. وهذه قصتها.

  • 821
  • 4:19 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

قسنطينة التي تبوح مدينتها القديمة بأسرارها كل مرة، تعد واحدة من المدن القليلة في العالم التي تختزل في طياتها تاريخا ضاربا في القدم وجغرافيا فريدة رسمت ملامحها الطبيعة، إذ يطلق عليها لقب مدينة الجسور المعلقة ومدينة الصخور والأبواب السبعة، غير أن لها وجها آخر خفيا وسرّيا لا يعلمه الكثير، وهي مدينة الأنفاق التي تتواجد أسفل قلب مدينتها القديمة التي توازي مساحتها نسيجها العمراني وتصل إلى خارج حدودها.

 قسنطينة أو سيرتا القديمة ليست مجرد تجمع عمراني يحكي قصة حضارات تعاقبت، بل مساحة تستمر في كشف أسرارها كلما غصت في أزقتها أو تأملت جسورها أو لامست حجارة بيوتها العتيقة، حيث إن المدينة القديمة والعتيقة رغم قِدمها، ما تزال حية تزهر وترفض أن تكون مجرد مدينة ثابتة لا تتحرك بتاريخها، إذ تعد جسورها أول مقاصد السياح لها، وهذا أمام جهل الكثيرين لما تخفيه هذه المدينة من خبايا.

 وتعرف قسنطينة، خلال السنوات الأخيرة، عودة السياح وانتعاش الجانب السياحي، إذ بمجرد دخول قسنطينة تجد مئات الأجانب حول تلك الجسور المعلقة التي تربط أجزاء المدينة ببعضها فوق وادي الرمال، تروي قصة تحدي الإنسان للطبيعة، بدءا من جسر سيدي مسيد إلى جسر سيدي راشد، ومن جسر باب القنطرة إلى جسر الشلالات، تتشكل شبكة من الممرات المعلقة التي تربط بين الصخر والصخر وبين الماضي والحاضر الذي يحمل ذاكرة أجيال.

 وتعد المدينة القديمة في قسنطينة منطقة محصنة طبيعيا بالصخور التي تحيط بها، وشكلت عبر الزمن حماية لها، فقد أثرت الطبيعة في بنيتها التحية وخلفت بداية تشكل الأنفاق قبل صورتها الحديثة، والتي تعد وجها آخر من أوجه المكان، إذ عُرفت قسنطينة منذ القدم بوجود ممرات طبيعية وأخرى محفورة عبر الصخور لتسهيل التنقل والتجارة والدفاع، وهي ذات الممرات التي تمتد حاليا تحت المدينة القديمة بمساحة تعادل تقريبا مساحة ما فوقها، ويقال إنها تمتد إلى خارج أسوار المدينة والولاية كاملة، وتصل إلى حدود ولايات أخرى.

 هذه الأنفاق ليست مجرد فراغات صخرية، بل أرشيف ضخم من الأسرار لحضارات تعاقبت؛ رومانية وإسلامية وعثمانية واحتلال فرنسي، وممرات لا يعرف أحد نهايتها تماما، لتعيد بذلك قسنطينة كتابة جزء من تاريخها، وتضيف تفاصيل لم تكن معروفة من قبل، يمكن أن تظهر مع كل ترميم لبيت قديم أو أثناء أشغال تظهر اكتشافات جديدة.

 "فرنسا أغلقت 90 بالمائة منها"

 وكشف الدكتور حيدر رواق، خبير في الآثار، في حديث مع "الخبر"، أن قلب مدينة قسنطينة القديمة بني على صخرة تتميز بجمالها الطبيعي الذي يتربع على مساحة تقدر بـ85 هكتارا، يعرف باطنها بوجود عدد كبير من المغارات والكهوف المتلاصقة والمترابطة التي استعملت عبر التاريخ في وظائف مختلفة، هذه الأخيرة التي ظهرت من تكونات صخرية وتجاويف طبيعية نتجت عن تآكل الحجر الجيري والصخور البركانية في عدة مواقع داخل هذه الصخرة.

 وكشف المتحدث أن بعض هذه الأنفاق التي كان لها عدة أدوار مهمة، يعود تواجدها إلى فترات ما قبل التاريخ، إذ عثر على دلائل تشير إلى أنها استخدمت قديما كمساكن وملاجئ ومقابر، كما شكلت هذه التجاويف لاحقا نواة لبناء ممرات بشرية خلال الحقبتين الرومانية والنوميدية، إذ توسعت بما يتناسب مع الاحتياجات الدفاعية وطرق التنقل في تلك الفترات، مردفا أن الاحتلال الروماني استغل هذه الفتحات الطبيعية والمرتفعات لصنع الفارق وبناء ممرات دفاعية وتخزينية، كما اعتمدوا على الأساليب المعمارية الرومانية في بناء الجدران واستعمال نوع من الإسمنت لحماية وتخزين المواد، كونها بعيدة عن النظر وعامل الرطوبة مع الحصول على الإمدادات الدفاعية عبرها.

 وأوضح الخبير أن الرومان عمدوا إلى توسيع الممرات الصغيرة والضيقة، حيث إن حوالي 20% من هذه الممرات بنيت وفق النمط الروماني الواضح.

وواصل، أنه خلال الفترة الوندالية ثم البيزنطية استخدمت هذه الملاجئ الطبيعية للدفاع عن المدينة أو للاختباء أثناء الأوبئة، أما في العصور الإسلامية والقرون الوسطى ومع بناء دويلات وبروز الحضارة الإسلامية في تلك الأماكن، فقد ظهر تطور عمراني كبير على مستوى حي القصبة والسويقة كحي شعبي متراص البنيان، وأصبحت هذه الأنفاق سراديب تحت البيوت الضيقة والمتلاصقة تستغل كمخازن وحماية للسكان أثناء الأزمات من الغارات وظهور الأوبئة، وأصبحت بذلك عبارة عن توسعات بشرية فوق ممرات طبيعية حولت إلى مخازن وآبار وغرف تحتية لخدمة المجتمعات المحلية.

 وأكد الدكتور رواق أن هذه الممرات الأرضية التي هي في الأصل تجاويف طبيعية طوّرها الإنسان عبر الزمن، أصبحت خلال الفترة الحمادية جزءا من شبكة عمرانية متكاملة لعبت دورا مهما خلال فترات النزاعات، إذ كانت منفذا للسكان للتنقل وجلب المياه والمؤونة خلال مختلف الحقب التي شهدتها المدينة.

 وواصل الدكتور الباحث، أنه وفي الفترة العثمانية، حيث كانت قسنطينة منطقة إدارية وحامية مهمة في الجزائر، استغلت البنية المعمارية لحي القصبة والسويقة، التي كانت تحمل كثافة سكانية كبيرة وشبكة ممراتها السفلية الداخلية، في الحركة والهروب أثناء النزاعات، متحدثا عن الكثير من المصادر الأثرية والشهادات الشفوية المعروفة التي تذكر استعمال الممرات في المنطقة الدفاعية والتنقل داخل الحي دون الظهور في الساحات، مشيرا في نفس الوقت إلى ما هو معروف في التاريخ، وخروج صالح باي من المدينة عبر هذه الأنفاق بعد معركة قسنطينة الثانية التي سقطت فيها المدينة.

 وأضاف المتحدث أنه وفي الفترات اللاحقة، خاصة بعد دخول الفرنسيين إلى قسنطينة، اكتشفت هذه الممرات بشكل واسع، فتم غلق حوالي 90 بالمئة منها، خوفا من استعمالها من قبل المقاومين للدخول إلى المراكز الإدارية أو تنفيذ عمليات ضد جيش الاحتلال ومقرات الحكام، كما تم إغلاق الممر المؤدي إلى قصر الحاج أحمد باي لحماية الحاكم العام الفرنسي من القتل، مسترسلا أن هذه الأنفاق استخدمت لاحقا كمخازن للذخيرة وطرق اتصال سريعة بين نقاط التحصين العسكرية، كما أجرت الإدارة الاستعمارية تعديلات على بعضها وقامت بإنشاء ممرات جديدة في مناطق كثيرة كمنافذ للسيطرة، تنطلق من حي عواطي مصطفى "طريق سطيف"، نحو "مطحنة لافي" الواقعة أسفل جسر سيدي مسيد بالقرب من ضريح سيدي ميمون، كطريق خاص لنقل البضائع، مثل القمح والشعير والذرة لضمان تخزينها.