تعاني جماهير المسلمين وكثير من نخبتهم من تشوّهات فكرية، ومن خلط في المفاهيم والمصطلحات، ومن اختلالات في الفهم، لا يكاد يسلم من ذلك أحد، على نسب متفاوتة، وهذا طبيعي لحد ما، ما دامت الأمة تسبح في بحر التخلف منذ قرون، وتستمرئ الجهل، وزاد الوضع سوءا انطلاق الرويبضة من عُقُلُها [جمع عِقال، والعِقَال: الحَبْل].
ولكن أسوأ منهم أثرا وأكثر فتنة، رويبضة الدكاترة، ورويبضة (العلماء)، وأشباه العلماء، وسيؤو الذكر من علماء السلطان، والعلماء التجار: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار}. فهؤلاء (من رويبضة الدكاترة إلى العلماء التجار) أكثر تشويشا وأسوأ أثرا، بما يبثونه من أفكار شاذة، وفتاوى ضالة، وآراء منحرفة، ومفاهيم مغلوطة مغالطة عن قصد حسب الطلب.
هذا الوضع جعل كثير من الناس تختلط عليهم الأمور، كما أسقط الثقة بالعلماء الصادقين، وأنتج تيارات غلوّ في كل الاتجاهات: غلو معاد للدين وغلو في الدين أيضا. ولن تغيب دول الاستكبار المهيمنة بمخابرها، ودول الاستبداد بمخابراتها، من توظيف هؤلاء وإفرازاتهم المقيتة؛ لتخدير الجماهير وتنويمها، وتسييرها في مسارات معينة.
ومن أسوأ إفرازات هذا كله صناعة الأصنام، سواء المشايخ الأصنام الذين يُرفعون إلى مقام القداسة والعصمة عمليا وواقعيا وإن أنكروا ذلك قوليا ونظريا، أو الأفكار الأصنام التي تتحول إلى فكرة مُصمتة، يُسلّم لها الناس ولا يناقشونها، ولو نقدوها لوجدوها أوهن من بيت العنكبوت، وصدق الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله تعالى: ”ومن سنن الله في خلقه أنه: عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم، والعكس صحيح أحيانا”. ويمكن كتابة طرة صغيرة على قوله، فأقول: وإذا حُرفّت الفكرة أيضا يبزغ الصنم.
ومثال لما سبق يوضح بعض أبعاده الواقعية، ما أشاعه علماء السلفية عامة، وخاصة علماء السعودية منهم، ثم نفخ فيه أفراخُهم من المدخلية، فكرة: ولي الأمر. التي صارت صنما شائع الذكر، متسلطا على الخلق، منزها عن النقد، بناء على زعم هؤلاء أنه هو المقصود بقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59]، وأول ملحظ يلحظه من له مسكة من عقل أن الآية جاء فيها اللفظ جمعا: {وأولي الأمر}، فكان أول خطوة في التحريف تحويله للمفرد: ولي الأمر!، فالحاكم واحد وطاعته مطلقة!، وأزيدكم أنه لم يرد لفظ (ولي الأمر) في أي حديث نبوي، بل وردت صيغة: «مَن وَلَّاه الله أمركُم»، وما يشبهها ويقاربها، وهناك فرق كبير بينهما؛ لأن (ولي الأمر) مفرد، يفيد التفرد، ولكن (من ولاه..) فيها الاسم الموصول (من) وهو من ألفاظ العموم يصدق على الواحد وعلى الجماعة، ومعلوم أن من صنع صنم (ولي الأمر) هو يخدم الحاكم الواحد المتفرد؛ ولهذا ابتدعوا هذا المصطلح وحمّلوه ما شأت لهم أهواؤهم وأهواء أسيادهم من معاني التسلط والاستبداد والطاعة المطلقة، وتجريم النصح والنقد والمعارضة والتخطئة له، كذبا على الله ورسوله عليه السلام. فهل المقصود بـ{وأولي الأمر منكم} في الآية الحاكم ولو كان غير شرعي، أو فاجرا ظالما، أو خائنا موال لأعداء الأمة؟ أم لعلماء السلف (نتاع الصح) كلام غير هذا؟؟
قال الإمام بكر بن العلاء البصري المالكي: ”وأما قوله عز وجل: {وأولي الأمر منكم}، ففيه اختلاف بين المفسرين، فمنهم من قال: السلطان، ومنهم من قال: الفقهاء والعلماء العقلاء. وطاعة السلطان واجبة في كل طاعة للَّه، وكل شيء لا يخرج إلى معصية ولا إثم، وطاعة أهل الفضل في الدين والعلم، ومن يوثق بهما عليهما فيما نيط بهم توجب رضوان الله، وتلزم أهل طاعة الله، فإن قِوام الدين بهاتين الطائفتين”. فهناك خلاف في المقصود بأولي الأمر إذن، وهناك من يقول هم العلماء والفقهاء، فيلزم هؤلاء الذين يدندون بطاعة ولي الأمر أن يطيعوا العلماء كطاعتهم ولي الأمر الحاكم، فالآية تشملهم.
وأعجب بعد ذلك من هؤلاء الرويبضة من دكاترة وعلماء حين يؤكدون على أن الحاكم يجب نصحه سرا فقط، ومن نصحه جهرا وصموه بالتهمة الجاهزة المضحكة: خارجي، إخواني... مع أنه لا يمكن الوصول إليه قطعا، في حين هم يوجبون تتبع أخطاء العلماء ونشرها على عامة الناس والتشهير بهم نصحا للمسلمين بزعمهم، مع أن العلماء من ولاة الأمر، {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}.
وأزيدك من أقوال العلماء في تفسير الآية لتتأكد أن فكرة (ولي الأمر) مطلق التصرف، مطلق الحكم، مطلق الطاعة، هي صناعة لصنم يعبد من دون الله تعالى، عن ابن عباس قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، يعني: أهل الفقه والدين. قال الإمام القرطبي: ”وهو اختيار مالك رحمه الله”. عن مجاهد، في قوله عز وجل: {وأولي الأمر منكم} ”يعني: أولي الفقه في الدين والعقل”. وعنه أيضا قال: ”هم الفقهاء والعلماء”. وعن عطاء بن أبي رباح قال: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، قال: طاعة الله: إتباع كتابه، وطاعة الرسول: اتباع سنته، أولي الأمر منكم، قال: أهل العلم”. وعن الحسن البصري: ”قال: هم العلماء”. وعن عطاء بن السائب قال: ”أولي العلم والفقه”. وعن أبي العالية قال: هم أهل العلم، ألا ترى أنه يقول: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} النساء:83، فانظر الدليل القوي الذي ذكره التابعي الجليل أبو العالية، إذ معلوم أن القرآن يفسر بعضه بعضا، والآيتان التي ذكر فيها (أولي الأمر) كلتاهما في سورة واحدة هي سورة النساء، مما يقوي استدلال أبي العالية رضي الله عنه، ومن يقول (أولي الأمر) هم الحكام سيتناقض في تفسير كلمة أولي الأمر الثانية إن فسرها بالعلماء، وإن فسرها بالأمراء كالأولى كان كلامه ساقطا. نعم هناك من قال الأمراء (بالجمع أيضا)، وهو مرويّ عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، لكن أكثر السلف على أن المراد بهم العلماء والفقهاء، وحتى إن قلنا: اللفظ يشمل الطائفتين كما قال بذلك بعض العلماء، فتهافت نظرية ولي الأمر الذي يجب أن يُستأذن في كل شيء حتى في المقاطعة والجهاد وردّ العدوان، والذي لا يجوز نقده ولا معارضته ولا نصحه إلا سرا من قبل (كبار العلماء) الذين صاروا كبارا بقرار سموه وجلالته، ظاهر للعيان لا يحتاج إلى بيان، وفضيحة الرويبضة من دكاترة وعلماء السلطان وأتباعهم بادية غير خافية، فأساس دعوتهم الفاسدة هي محاربة العلماء الصادقين وتشويههم عند عامة الناس، بنشر أخطائهم والتشهير بهم ووصمهم بأوصاف جاهزة... فإذا بهم يجدهم الناس مخالفين لصريح القرآن الذي يأمر بطاعة أولي الأمر الذين هم العلماء، ومخالفين لمنهج السلف الذي يرى غالبيتهم العظمى أن أولي الأمر في الآية هم العلماء والفقهاء.. وهذا هو الضلال المبين والابتداع اليقين.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
الخبر
15/10/2025 - 23:06
الخبر
15/10/2025 - 23:06
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال