أقلام الخبر

"الترامبية"..و"الشعبوبة الاستبدادية"

يبدو أنه لم يعد سهلا النظر إلى المشهد الدولي فقط عبر النظريات التقليدية، ذلك أن التحولات الجديدة تتطلب رؤى جديدة أيضا.

  • 843
  • 3:21 دقيقة

في أفريل الماضي، قال رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر: "إن العالم الذي نعرفه لم يعد موجودا". كان ذلك إقرارا من زعيم دولة، مصنفة قوية وفاعلة في المشهد، بأن التغيرات سريعة وعميقة وأن استشراف مآلاتها بات معقدا.

اعتاد المفكرون المهتمون بدراسة السلوك الدولي وتحولاته، شرحه عبر عدد من النظريات الرئيسية المعهودة في الأدبيات الغربية على غرار "الواقعية السياسية" و"الليبرالية" و"البنائية" وغيرها.

الأولى اشتهرت منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتركز على تفكيك المشهد العالمي بوصفه فوضويا، وأن الدول هي اللاعب الرئيسي، وتتصرف أساسا من منطلق رغبتها في "النجاة" وتحقيق مصالحها القومية.

والثانية تركز على النظر من زوايا الدبلوماسية، المؤسسات، الاعتماد المتبادل، القوة الناعمة، وازدهرت خصوصاً مع سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

وستارمر عندما كان يتحدث عن اختفاء "العالم الذي نعرفه"، ربما كان يشير إلى تلك "الفترات الليبرالية" الأكثر هدوءا وتعاونا وتكاملا منذ تشكل المنظومة الدولية الحالية على أنقاض الحرب العالمية الثانية.

"النظرية البنائية" أخذت زخما هي الأخرى متأخرة في تسعينيات القرن الماضي مع انهيار الاتحاد السوفياتي، محاولة فهم السلوك الدولي من زوايا الأفكار والقيم والهويات.

بعيدا عن هذه الجوانب النظرية، ماذا عن المشهد اليوم، في ظل تزايد الحروب والنزاعات، تفاقم الصراع على الموارد، ارتفاع عدد السكان، تنامي الاقتناع بعدم فاعلية "منظومة عام 1945"، وبالتالي ضرورة إحداث تغيير؟

لم يعد خافيا أن الحقبة الحالية تشهد حضورا طاغيا لـ"الترامبية"، مجسدة في أداء ترامب وإدارته وقواعده الشعبية الملتفة حول حركة "ماغا".

البعض يرى الظاهرة مؤثرة داخليا وخارجيا، والبعض يراها عابرة. على مستوى الشكل، هي ترمز للنفوذ وتحدي القانون، بينما على مستوى المضمون تشمل مروحة واسعة من المقاربات، فهي في الفضاء الأمريكي الداخلي "واقعية" تعمل على تعزيز المصالح القومية وفق عقيدة "أمريكا أولا"، وفي القارة الأمريكية "توسعية" (تجاه كندا، غرينلاند، بنما.. الخ)، وفي الفضاء الأوروبي "انعزالية" (حرب الرسوم الجمركية والتخلي عن أعراف الدفاع المشترك عبر الأطلسي).

تحمل الظاهرة الكثير من أفكار "رفض الآخر"، وبذلك باتت بمثابة نسخة أمريكية من اليمين المتطرف الذي ظل لفترات طويلة موجودا فقط على هوامش السياسة في دول كثيرة، وبات اليوم مستقويا.

"الترامبية" لم تعد مجرد حليف معنوي لهذا التيار المثير للجدل والاستياء، وإنما داعم فعلي له. فهي تدعم حزب "الإصلاح" المناهض للهجرة في المملكة المتحدة و"البديل" اليميني المتطرف في ألمانيا وكيانات أخرى كثيرة مشابهة هناك وهناك.

"الترامبية" عنيفة إلى درجة أنها ترفض التعاون مع حكومات دول، لكنها تحرض كيانات وشعوبا داخل تلك الدول على تبني أفكارها. إنها تستهدف السيادات الوطنية ربما أكثر من أي ظاهرة أخرى.

في ظل الصخب الذي تحدثه "الترامبية"، يصعب وضعها في خانة النظريات التقليدية الكبرى، رغم أنها تحمل بعض جوانب "الواقعية"، وهو ما يقوّي فرضية كونها مجرد حالة مؤقتة.

أمام هذه المقدمات، يمكن الإشارة إلى أن الكثير من الدارسين يرون "الترامبية" أقرب إلى "الشعبويةالاستبدادية"، وهو توصيف ظهر أول مرة في ثمانينيات القرن الماضي في شرح الحالة الثاتشرية.

يقول المفكرون المنظرون لهذه الحالة، إنها تبرز من حين لآخر على المشهد بفعل عوامل سلبية مثل القلق الاقتصادي أو الصدامات الثقافية أو تراجع أداء المؤسسات الديمقراطية. مثل هذه العوامل، يمكنها أن تُولّد شعورا بالإحباط لدى شرائح معيّنة من السكان تلجأ لدى محطات الاختيار (الانتخابات) إلى قادة يقدمون حلولا تبسيطية ولا يترددون في التضحية بحقوق "أكباش فداء".

"الشعبوية الاستبدادية" عادة ما تُعلي من الشعور بالقومية والهوية الوطنية، وتأتي مصحوبة بخطاب معاد للأجانب أو الأقليات، كما أنها تقوّض أدوار القضاء وحرية الصحافة ومنظمات المجتمع المدني، مما يُضعف الضوابط والتوازنات الضرورية لديمقراطية سليمة.

"الترامبية"، كما "الشعبوية الاستبدادية"، كل واحدة منهما، صاخبة وعنيفة، وعليه فإن من الطبيعي أن تواجه استنفاراورفضا. هناك مقاومة لها حتى من داخل بيئتها، إذ تتزايد، اليوم، الأصوات الداعية للتفريق بين الأفكار الجمهورية والمحافظة التي ترشّح ترامب باسمها، والظاهرة الترامبية.

وهناك أيضا رفض داخلي يمتد حتى أوساط الأكاديميين والعلماء والباحثين والأثرياء الحريصين على أجواء أفضل.

خارج الفضاء الأمريكي، تخلّف "الترامبية"، حالات رفض ومقاومة في كل أنحاء المعمورة. على الأرجح، ستربك الشراكات الغربية عبر الأطلسي، وتُسرّع أكثر الصعود الصيني، وتعمّق التعاون جنوب - جنوب (عبر تكتل بريكس وغيره) لكسر هيمنة النموذج الاقتصادي الغربي وأدواته.

"الترامبية" بمبادراتها المفاجئة وغير المتوقعة، ستتبقى، على الأرجح، تراوح مكانها ولن تحقق اختراقات حقيقية في التعامل مع الأزمات الكبرى مثل الإبادة في غزة أو حرب أوكرانيا أو العلاقات مع الصين وكوريا الشمالية وإيران.

الخلاصة، أن "الترامبية"بشعبويتها ومظاهر تطرفها، تمثل فشلاغربيا آخر، في تقديم بدائل لتحديات العصر وتؤكد الحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب.. ومتعدد الرؤى والأفكار أيضا.