إن الناس جميعا بمختلف اعتقاداتهم وتفكيرهم مُجمِعون على أن الإنسان عندما يولد في هذه الدنيا يولد مكرّما، ومن حقه أن يحيى حياة كريمة، سواء كان ذلك في التصور الديني، أو التصور الفلسفي أو التصور الحقوقي. والجميع يرى بأن الكرامة الإنسانية ليس مفهوما مجردا، بل هو مفهوم له واقع لا تنفصل فيه الكرامة عن الحرية، وعن العدالة، وعن حقوق الإنسان، وعن العيش الكريم، وعن الأمن، وعن الاحترام والتقدير، وعن مجالات الحياة بصفة عامة. والكرامة بهذا المفهوم تعدّ قيمة إنسانية مشتركة مهمة، يمكن لها أن تؤدي دورا كبيرا في قضايا التعارف والتعاون والتعايش الإنساني.
وتحتل الكرامة الإنسانية في التصور الإسلامي حيّزا كبيرا من الأهمية، يقول الله تعالى: {ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}. خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وصوّره أجمل تصوير وكرّمه أكمل تكريم، فشرّفه بالعلم والعمل ولقبه بأشرف الخلائق في الأرض، وأمر الملائكة بالسجود له عند خلقه من صلصال من حمأ مسنون، وقد جعله الله تعالى خليفة له على الأرض، ومنحه العديد من المواهب والمزايا التي تميّزه عن سائر المخلوقات والمكوّنات، فوهبه العقل الذي يميّز به الصحيح والخطأ والمفيد والضار، والخير والشر، ووهبه القدرة على التفكر والشعور حتى يخوض فيما يُحيط به هذا الكون من الأفلاك والسيارات والفضاء والبحار والمعادن. وسخّر له هذا الكون وجعل كل ما فيه وحتى الملائكة لخدمتهم، واختار من هذه البرية المكرمة صفوة من الأنبياء والمرسلين واجتباهم لهداية العلمين، وقد أعطى الإنسان حرية الاختيار في الكثير من الأشياء، فالإنسان قادر على اختيار ما يريد اتباعه أو ما يريد القيام به، ولهذا صار مسؤولا ومحاسبا وبه أصبح مكرما ومحترما، وكل ذلك هو من مظاهر تكريم الله للإنسان، واحترامه له وتفضيله على كل المخلوقات التي تشاركه العيش على سطح هذه الأرض. وإنما الكرامة الإنسانية كما ينص عليه الإسلام هي حق مشاع، يتمتع به الجميع من دون استثناء وتقييد، فلا يجوز لأحد أن ينتهك كرامته ويخرق شرفه ومكانته المرموقة، ولكي تصان هذه الكرامة وتحفظ هذه المنزلة، فقد شرع الله سبحانه للإنسان العديد من التشريعات والتوجيهات.
ولقد تم هذا الحفظ لهذه الكرامة الإنسانية وعدم تعريضها للإهانة والانتهاك من جهتين: من جهة الذات بعدم إهانة الإنسان لنفسه بأن يرضى لها الذل والدنية طوعا أو كرها، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ”من أصبح وهمّه الدنيا فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا”. ومن جهة ذوات الآخرين باحترامها وتقديرها وحمايتها والدفاع عنها، يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}.
وتعتبر «الكرامة الإنسانية» من أهم القضايا الإنسانية الحديثة لدى المنتديات الإنمائية والمنظمات الإنسانية الدولية، وتنال اهتماما واسعا من قِبل مؤسسات وهيئات المجتمع المدني والسياسي، وتتصور هذا المصطلح أساسا للقوانين العالمية العادلة لحقوق الإنسان وقضاياه، وتستند إليه الدساتير والتشريعات الحكومية الدولية في أيامنا هذا، وعيا بأن الكرامة الإنسانية لابد من تفعيلها في المجتمع الإنساني النامي، فأول من أدخل مفهوم الكرامة الإنسانية في دستوره هم الإيرلنديون سنة 1937.
لكن الإسلام سبق في التأكيد على أصالة الكرامة الإنسانية، وليرسخ في الإنسان إحساسه بكرامته، وليقوي تمسكه بها، وصونه لها، وذوده عنها؛ لأنها جوهر إنسانيته، ولُبّ بشريته، وأساس حياته. فقد راعت المبادئ الإسلامية تجاه الحياة الإنسانية أنه أكرم الخلق أجمعين في العالم، وأنه يحمل الأمانة العظمى، وأنه مستخلف عن الله تعالى في الأرض، ليعمّرها وليقيم الموازين بالقسط، وليعبد الله وحده لا يُشرك به أحدا، فكان الإسلام باعثا للكرامة الإنسانية، وحافظا لها، بما جاء به من مبادئ سامية تصون للإنسان حرمته، وترعى كرامته.
ومن أجلى مظاهر الكرامة البشرية أن الإسلام لم يفرق في حق الحياة بين أبيض وأسود، ولا بين شريف ووضيع، ولا بين حر وعبد، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين كبير وصغير، لأن هذا التكريم تكريم إلهي، وليس بسبب توافر خصائل مادية وتضافر عناصر مكسوبة؛ فقد ورد في الحديث: ”الخلق كله عيال الله ورعية الله”، وقال الرسول صلّى الله عليه وسلم: ”كلكم بنو آدم، وآدم من تراب”.
وتزداد كرامة الإنسان أهمية وضرورة في أيامنا هذا، ولقد أصبح الأمن والاستقرار مرهونين اليـوم أكثر من أي وقت مضى ببذل جـهود جادة لإقرار المسـاواة والتسـامح واحـترام الكرامـة الإنسانية وسيادة القانون في كل ناحية من أنحاء العالم؛ لأن من شأن الكرامة الإنسانية أنها تقود الإنسان إلى شعور الاحترام والعزة للنفس. لكن اليوم قوّضت الحضارات الحديثة الكئيبة بنية الكرامة وسلبت الطمأنينة والقرار من مقلديها، وإن استرجاع الأمن وإنشاء التعايش السلمي يكمن في عودة عالم اليوم إلى الشعور بالاحترام المتبادل، والتسامح والتعاون والاعتراف الواضح للكرامة الفردية والجماعية في إطار التضامن الإنساني وهذا هو ما يدعو الإسلام إليه.
الخبر
10/11/2025 - 00:03
الخبر
10/11/2025 - 00:03
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال