ما أصدق كلمة الإمام الهمام الإبراهيمي عليه شآبيب الرحمة على حال الإنسانية اليوم: ”ألا فليرحم الإنسانية من في قلبه رحمة، ألا وإن الإنسانية تستغيث فهل من مغيث؟، وتستنجد فهل من منجد؟” [مقال: ”الإنسانية: آلامها واستغاثتها”، الشهاب، فيفري 1931م].
نعم، إن ظاهر الأمر أن أهل غزة الشهيدة هم من يستغيث ولا مغيث!، وهم من يستنجد ولا من منجد!، لكن حقيقة الأمر أن البشرية هي التي هوت، وأشرفت على الموت، وفقدت إنسانيتها، فهي المستغيث المستنجد الذي أصيب في مقتل: مات ضميرها، وماتت إرادتها، وماتت قيمها، وماتت مبادئها، ومات إيمانها، وهي تتفرّج على طغيان الولايات المتحدة وجرائمها في غزة عن طريق وكلائها الصهاينة، نقل مباشر لإبادة جماعية، ولمختلف صور جرائم الحرب التي حرّمها قانونها الدولي من استعمال لسياسة التجويع والتعطيش الجماعي، وعقاب جماعي للمدنيين، وتعذيب وتنكيل بالأسرى، وتهجير قسري، وقصف للمستشفيات، ولطواقم الإسعاف، ولمقرات الأمم المتحدة، ومخيمات اللاجئين... لماذا أعدد الجرائم؟ والأمريكان والصهاينة ما تركوا جريمة عدّها القانون الدولي جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية إلا ارتكبوها وكرروا ارتكابها، أمام الكاميرات وبتبجح وصلافة!!، فماذا بقي للإنسانية أن تدّعيه؟!، بل ماذا بقي للإنسانية من إنسانية؟!.
أمام هذا الوضع المظلم القاتم في هذه المرحلة من تاريخ البشرية من الوحشية والإجرام والإبادة، والتواطؤ والمساندة للصهاينة والأمريكان سرا وعلنا، والتخاذل والخيانة همسا وجهرة، يئس الكثير من الناس من الإنسان، ورأى كثير من العقلاء أن الإنسانية قد ماتت موتتها النهائية، ذُبحت في غزة، وذُبح بذبحها النفاق العالمي الذي تغنّى طويلا بحقوق الإنسان وحقوق الحيوان، وتبجح كثيرا بقيم العالم الحر ودعاوى الحرية والمساواة، وادعى ما شاء له أن يدعي بأن البشرية تطورت تطورا كبيرا في ظل الحضارة الغربية، بل وصل نهاية التاريخ، فليس في الإمكان أبدع مما كان!؛ ليستيقظ العقلاء على الوجه القبيح المفزع لهذه الحضارة التي قامت على الإبادة والحروب والاحتلال من أول يوم: إبادة الهنود الحمر والسكان الأصليين في الأمريكيتين وأستراليا ونيوزيلندا، والحربان الغربيتان (تسمى زورا العالميتان، وما هما إلا حربين غربيتين اصطلى الأبرياء بنيرهما في العالم أجمع) وضحاياهما الذين يعدون بالملايين، واحتلال أفريقيا وآسيا ونهب ثرواتهما...
فعن أي حضارة يتحدثون؟!، وبأي مدنية يتبجحون؟!، اللهم إلا الآلات التي قتلت الإنسانية ولوثت البيئة!، والبهيمية التي وصلوا إليها انحلالا وفسادا!. هذا الجانب المظلم المقزز الذي يبذلون كل ما في وسعهم لتغطيته وتشويه التاريخ والوقائع لطمسه، حتى لا تستفيق الشعوب المقهورة بالطغيان، المنومة بأضواء المدنية العابثة!. ذلك أن الغرب حقّق قول الله جل شأنه عن الإنسانية: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين} أجلى تحقيق.
بيد أن العقلاء العالمين بسنن الله تعالى يوقنون أن طوفان الأقصى المبارك وما تلاه من إبادة همجية في غزة ما هما إلا منعرجا فاصلا في حياة الإنسانية لبعثها من جديد، ورفعها إلى مقام أحسن تقويم مرة أخرى، فما تتمخّض عليه الأحداث المؤلمة سيكون ميلادا جديدا للإنسانية ينتصر فيه الحق على الباطل، ويظهر فيه الخير على الشر، ويتغلب فيه العدل على الظلم، وبوادر هذا الميلاد الجديد ظاهرة للعيان لا تحتاج إلى بيان، وما انتفاضة الشعوب الغربية ضد الصهيونية، وتألمها للخديعة التي كانت ضحية لها لعقود، وما إقبال العديد من الغربيين على الإسلام والقرآن اكتشافا ثم إيمانا، وما انقلاب مواقف بعض الحكومات الغربية على الصهيونية بسبب ضغط شعوبها، وما التفاف أمم العالم على نصرة القضية الفلسطينية حتى الأمم المتصهينة كهولندا وبريطانيا، وما انبعاث القضية الفلسطينية بعد وصولها إلى مرحلة التصفية النهائية، وما.. وما.. إلا بعض هذه المؤشرات {ولتعلمن نبأه بعد حين}.
نعم، ستشهد الإنسانية ميلادا جديدا، وما هو إلا من تداعيات طوفان الأقصى المبارك، وقد حان الآوان للاستجابة لاستغاثة الإنسانية واستنجادها، ولن ينجد الإنسانية من ورطاتها وغمراتها إلا أهل الحق والعدل والفطرة، لن يغيثها إلا حملة الرسالة السماوية الهادية الخالدة، ذلك أن الإنسانية في قرونها الأخيرة جربت كل الفلسفات الأرضية، وكل المذاهب المادية الإلحادية، فلم تزدد إلا ضلالا وحيرة وتوحشا وبهيمية، ولا ملجأ لها ولا منجى إلا إلى الله تبارك وتعالى: {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}، {يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، بشرط أن يفهم المسلمون دينهم ورسالتهم في الحياة، ويقوموا بها حق القيام، وما ذلك على الله بعزيز، نعم يحتاج جهدا كبيرا، واجتهادا عظيما، وتجديدا رشيدا، وبذلا مضاعفا، وهذه واجبات على المسلمين لا فكاك لهم منها، وسيحاسبون عليها، وهي من متطلبات مقام الشهادة على الناس: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}، {يأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتبىاكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}، وحين يفقه المسلمون هذا، ويقومون به خير قيام، عندها تجد الإنسانية رشدها، وتستبين سبيلها، وتولد من جديد، و{لكل أجل كتاب}.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
الخبر
11/06/2025 - 23:47
الخبر
11/06/2025 - 23:47
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال