الوطن

"اعترفوا بالجريمة.. حرّروا فرنسا من هذا الكبت الاستعماري"

"آلاف الأهالي أعدموا بدون محاكمة في الساحات العامة، في الشوارع، داخل المستشفيات، وتم إلقاء بعضهم من أعالي المرتفعات، أو دفعوا إلى قاع الوديان، معتقلون عذبوا حتى الموت".

  • 3279
  • 5:59 دقيقة
الصورة: محمد القورصو
الصورة: محمد القورصو

"إن يوم الثامن من شهر ماي 1945 في الجزائر يختلف اختلافاً جذريا عن الثامن من ماي 1945 في فرنسا، فإذا كانت ذكرى 8 ماي مدعاة للفرح والسرور في أوروبا، فإن هذا اليوم يوم حداد دائم في الجزائر" (شارل هنري فافرو)

لقد كتب الأديب الراحل كاتب ياسين عن هذه الجرائم قائلاً: "في عام 1945، واجهت إنسانيتي لأول مرة أبشع المشاهد، وكنت فى العشرين من عمري. لم أنس قط الصدمة التي شعرت بها أمام المجزرة القاسية التي أودت بحياة آلاف المسلمين.. من هناك بدأت وطنيتي تتشكل".

وصرّح الجنرال لويس أوجين كافينياك، الملقب بفرنسا بـ"رجل المحارق"، بأن الأمة لا تفقد استقلالها دون ندم... فالمقاومة تكمن في الفكر".

أما الجنرال لوكلير، فقال عن فيتنام: "لا تقتل الأفكار بالرصاص".

في حين أن مصطفى الأشرف رأى أن ذلك أدى إلى "ولادة لا وطنية نضالية تجسد البقاء والمصير لشعب بأكمله..".

جريمة دولة بدون عقاب

في الوقت الذي تستعد فيه فرنسا بكل أرجائها والعاصمة باريس للاحتفال بالذكرى الثمانين لهزيمة النازية وتحرير البلاد من الاحتلال الألماني، ستكون فرنسا شامخة ومرفوعة الرأس إذا ما أقدم رئيسها إيمانويل ماكرون بشجاعة على الاعتراف بهذه المناسبة، باسم الجمهورية، بأن الجريمة الجماعية التي اقترفتها القوات الفرنسية والميليشيات الاستعمارية في مستعمرتها السابقة الجزائر هي جريمة إبادة جماعية.

إن قانون العقوبات الفرنسي في نسخته الصادرة بتاريخ 15 أفريل 2025 يعتبر: "الاعتداءات المتعمّدة على الحياة"، "والاعتداءات الجسيمة على السلامة والنفسية"، و"النيّة الموثقة والمعلنة التي تؤدي إلى الإبادة المباشرة لعائلات بأكملها"، "والتدمير الجزئي لمجموعات بشرية والسجن والتغييب القسري وممارسة التعذيب" على أنها أصناف من الجرائم ضد الإنسانية.

إن كل هذه الجرائم التي ذكرت أعلاه اقترفت في حق جزائريين يحملون صفة المسلمين الفرنسيين، ما بين 4 ماي و25 جوان 1945، في سطيف وخراطة وقالمة وغيرها من الجرائم، على مرتكبها اعترافاً تمليه الأخلاق قبل قانون الحرب.

إن آلاف الأهالي أعدموا بدون محاكمة في الساحات العامة، في الشوارع، داخل المستشفيات، وتم إلقاء بعضهم من أعالي المرتفعات، أو دفعوا إلى قاع الوديان، معتقلون عذبوا حتى الموت، صب فوقهم البنزين وأحرقوا أحياء، اغتصبت النساء وشقت بطونهن بحراب البنادق، أطفال رضع ألقي بهم على صخور الجبال، موتى بلا قبور، تركوا في العراء تلتهمهم الضواري، أيتام بلا مأوى، جثث أحرقت لمحو آثار الجرائم، مشاتي دمرت وأبيد سكانها، صدمات نفسية على مستوى ولاية بأكملها بل على مستوى وطن بأكمله، هذا هو باختصار شديد المشهد المروّع لمجازر ارتكبت بوعي كامل، وسبق إصرار بدم بارد وبروح انتقامية واضحة من مساء 8 ماي حتى 26 جوان 1945، على يد مسؤولين سياسيين وإداريين وعسكريين وميليشيات كولونيالية.

إن لم يكن بالإمكان استجواب محافظ الشرطة القضائية الرئيسي بيير جيبي الذي وصفهم بكل شجاعة بـ"القتلة الكبار"، فأنت السيد رئيس الجمهورية الفرنسية تملك ملفات الأرشيف المتعلقة بهذه الفترة من تاريخ فرنسا تلك التي لا تنفك تلاحقها، وسترون أن أماكن الذاكرة التي لا يمكن لمرض "الزهايمر" أن يمسها، ستقدم لكم معلومات ثمينة.

إن سطيف العالي، مدينة القمح، وعين الفوارة وتمثالها الخالد "سعال بوزيد" تتحدى التاريخ، لكونها رفضت أن تكون مجرد بساط يداس.

لقد تشكلت ذاكرة مدينة سطيف من سوقها الأسبوعي، مسجدها، مناضليها، كثافتها، فلاحيها -وكأنهم عراة بدون عصيهم- هذه الذاكرة لم ولن تنسى أبداً جنون القتل الذي تفجر إثر المظاهرة السلمية في ذلك اليوم المشهود، 8 ماي 1945.

إن الرايات واللافتات التي حملها شبان شجعان حازمون، حتى وإن مزقت واقتلعت، حتى وإن ديست بالأقدام، حتى وإن تلطخت بالدماء، فإنها لا تزال تقاوم القمع الظلم والإنكار، ولكن إلى متى؟

إن قمم جبال خراطة الشاهقة ووديانها العميقة كتاب مفتوح وأمانة تضحيات الفلاحين الذين ألقوا من أعالي المنحدرات، ليسقطوا بشرف في وادي "شعبة الآخرة".

وعلى الجرف الجنوبي الشرقي لهذه المنحدرات، وقعت "وحدة اللفيف الأجنبي" بأحرف كبيرة عملها "البطولي"، قبل عودتها إلى ثكناتها بمدينة سيدي بلعباس، كما خلد أحد الجنرالات مروره "المجيد" بتدوين اسمه واسم فيلقه على صخرة بقاع الواد.

إن "الشعبة الآخرة" لم تستطع إحصاء شهدائها الذين رمتهم شاحنات الميليشيات في قعر الوادي الذي تحول إلى مقبرة مفتوحة إلى الأبد.

تجدر الإشارة إلى أن سكان القرى والدواوير المجاورة، حتى وإن أعيد بناؤها، لم يفرقوا لحد الساعة بين النسر الملكي الذي يحلق في السماء وطائرات 26 و24 التي قصفت السكان المدنيين الفارين من الميليشيات الذين أحرقت ودمرت مشاتيهم ودواويرهم، الأمر الذي دفعهم إلى الانتفاضة.

أما قالمة المشهورة بـ"حمام المسخوطين"، فلا تزال تحتفظ في أعماق ذاكرتها برائحة الجثث التي أحرقت في أفران الجير بهليوبوليس، والتي تعود ملكيتها للمندوب العام "مارسيل لافي".

السيد رئيس الجمهورية الفرنسية..

هناك عدّة معالم تاريخية في قالمة احتفظت بذكريات الثامن من ماي، تناشد ذاكرة الدولة التي ترأسونها مثل: "مقبرة الكرمات"، ساحة "ساحة أوغستين"، مقر دائرة الشرطة، مركز الدرك، المستشفى، محطة القطار "وكاف ألبومبا"، أفران الجير، الجسور، وعدد كبير من المقابر الجماعية، يضاف إليها عدد من بلديات الميليشيات مثل: "ميليريمو"،" بيتي"، "غونود"، "قلتة بوسبع"، "غالييني"، "كلوزيل"، وجميعها معالم ذاكرة ترك فيها أولئك "القتلة الكبار" آثارهم النكراء. 

هل تبقى، سيدي رئيس الجمهورية، هذه الجرائم والمجازر المروّعة دون عقاب، وقد ارتكبت دفاعا عن فرنسا المتعاونة مع الألمان التي تصدّت لها المقاومة الفرنسية، والتي ستنبثق عنها في عام 1958 الجمهورية الخامسة؟

اسألوا الجنرالات "هنري مارتان" و"رايمون دوفال" المكنى بـ"السفاح"، اسألوا المحققين "بير جيبي" و"تويير" وحتى وزير الداخلية "أدریان تيكيي".. الشواهد والشهود حاضرون، والأدلة ثابتة، الضرورة تقتضي القرار السياسي الذي يفتقد حتى الآن إلى الشجاعة والعزيمة والإرادة.

من واجبكم، السيد ماكرون، أن تضعوا حداً لهذا الإنكار للعدالة، والاعتراف بصراحة ووضوح، ودون مواربة بالجرائم. بحق شعب دفع آباؤه وأبناؤه وأحفاده أغلى ما يملكون، وهو أرواحهم، من أجل تحرير باريس جنباً إلى جنب مع فرنسيين آخرين أحرار، رفضوا الخضوع للماريشال، ولدكتاتورية المحتل الألماني، كما لم يقبلوا بتقسيم وطنهم.

إن هذا التضامن الجسدي والروحي على طول جبهات القتال الألمانية والإيطالية من أجل نصر الحرية وحقوق الإنسان قد تمزق يوم 8 ماي في الجزائر، وعلى يد متربصين كانوا ينشطون منذ حرب الاحتلال من أجل أن تبقى الجزائر فرنسية.

تبعية علمية وذاكراتية

إن القيود المفروضة على الباحثين والمؤرخين الجزائريين في المراكز الأرشيفية بفرنسا قد أثرت وتؤثر سلباً على البحث التاريخي الجاري في الجزائر، إن هذه الأبحاث والدراسات لا تزال رهينة للتنظيم الأرشيفي الفرنسي، الأمر الذي يضطرهم إلى الاعتماد على آخر ما توصل إليه زملاؤهم من الفرنسيين والأجانب.

إن التعاون العلمي غير التبعية العلمية التي تنجر عن فقدان أدوات البحث العلمي، الأرشيف الجزائري الذي تعرّض للقرصنة قبيل الاستقلال بأمر من السلطات العليا الفرنسية، يضاف إلى ذلك التعتيم المستمر على الحقائق التاريخية بأشكالها المتعدّدة لإخفاء مسؤولة الدولة الفرنسية.

إن الوعود المتكرّرة بفتح كامل للأرشيف المودع في المخازن الفرنسية سوف يسمح للطلبة والباحثين والمؤرخين الجزائريين بمواكبة البحث الحديث، وتعميق وتجديد مقارباتها التاريخية، من خلال توسيعها لتشمل مجالات سوسيولوجية انثروبولوجية، قانونية، طبية، بيئية وغيرها، دون العودة إلى سرديات استعمارية تعاد قراءتها وتكييفها من منظور وطني جزائري.

هذه التبعية العلمية والثقافية التي لا تزال مستمرة بعد ثلاثة وستين عاماً من استعادة الدولة الجزائرية لسيادتها، تتم تغذيتها عن قصد من قبل القوة الاستعمارية السابقة لأهداف استراتيجية.

لقد خلف طمس صفحة 8 ماي 1945 من تاريخ الجزائر خلال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات نسيانا ممنهجا دأبت عليه الحكومات الفرنسية المتعاقبة، ليفسح المجال منذ مطلع هذا القرن لـ"وصفة" الاعترافات المتقطعة التي تحركها نزعة تجارية عابرة، تعكس فشل السلطات الفرنسية في تحمّل كامل مسؤوليتها التاريخية تجاه فرنسا نفسها وتجاه مستعمراتها، وعلى رأسها الجزائر، مستعمرتها المفضلة.

السيد الرئيس ماكرون

لا ينبغي أن تكون مصلحة الدولة ذريعة لعدم اعتراف فرنسا بجريمة الدولة، والجريمة ضد الإنسانية، المرتكبتين في حق الشعب الجزائري، وذلك وفقاً لتشريعات بلدكم..

حرّروا فرنسا من هذا الكبت الاستعماري الذي تبث ذباباته السلبية يومياً، والذي يبعدها أكثر فأكثر عن إنسانية مفكريها الكبار، مسمّماً يوماً بعد يوم علاقاتها مع الجزائر.

أنصفوا موتانا كما تنصفون موتاكم بمناسبة الذكرى الثمانين.

السيد الرئيس، إن مصالحة الذاكرة التي تنشدونها وتولونها كبير عنايتكم تتطلب منكم ذلك.

محمد القورصو

أستاذ جامعي، رئيس سابق لجمعية 8 ماي 1945، عضو سابق في مجلس الأمة